من مفكرة سفير عربي في اليابان
اختلفت توقعات مفكري الغرب في بداية التسعينيات حول التغيرات الجغرافية والسياسية القادمة في العالم، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وانتهاء الحرب الباردة. فتوقع البروفيسور فرانسيس فوكوياما في عام 1992 بأن تاريخ العالم سينتهي، ويتوحد تحت راية العولمة، بانتشار رأسمالية السوق الحرة، والديمقراطية اللبرالية الغربية. وقد خالفه في ذلك البروفيسور صاميول هنتنجتون، أستاذ العلوم السياسية السابق بجامعة هارفارد، بتوقعه بأن تستبدل الغربنة بالفكر الديني، بعد انتهاء صراع أيديولوجيات العلمانية للحرب الباردة. وبعد مرور عقد من الزمن صدر كتاب للبروفيسور الأمريكي جوزيف ستجلتز الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد بعنوان، ثمن عدم المساواة، ليؤكد بخطأ توقعات البروفيسور فوكوياما، وقد بدأ مقدمته بالقول: quot;بأن هناك لحظات في التاريخ ثارت فيها شعوب العالم لتؤكد بأن هناك خطاء فادح، وهذا ما حدث في عام 1848 وعام 1968، لتبدأ مرحلة مراجعة جديدة، وقد يثبت التاريخ بأن عام 2011 هو من أحد هذه اللحظات. فانتفاضة الشباب الذي بدأت في تونس وامتدت إلى مصر، ومنها لباقي دول الشرق الأوسط، أدت لتغيرات اجتماعية متشابكة ترافقت بانهيار دكتاتوريات مزمنة. وبسرعة اكتشفت شعوب الغرب وباقي دول العالم بأن لهم أسبابهم الخاصة للنزول للشارع. وقد كان المتظاهرون على صواب، فالتباين بين ما يفرض أن يحققاه نظامينا الاقتصادي والسياسي وبين ما حققاه فعلا أصبح كبير، لا يمكن تجاهله. فمع الأسف لم تطرح حكومات العالم حلول لمعضلات العولمة الاقتصادية، كالبطالة، بعد أن تم التضحية بقيم العدالة العالمية بواسطة قلة من الجشعين، ليصبح حتى الشعور بالظلم شعور بالخيانة.
فخلال عقد من الزمن انتهت خرافة انتصار الرأسمالية الفائقة المحررة من الانظمة والقوانين وبتوحد العالم تحت سقف رايتها، وبرزت نظرية هاتنجتون في استبدال العالم للغربنة بالفكر الديني. فلنكمل عزيزي القارئ دراسة أفكار البرفيسور هاتنجتون من خلال تصفح كتابه، صراع الحضارات، فقد تساعد العرب في حيرتهم في الاختيار بين الغربنة والحداثة. فيؤكد هاتنجتون بأن الحداثة لا تعني الغربنة، فيمكن للمجتمعات اللاغربية أن تحتضن الحداثة في بدون أن تتخلى عن ثقافتها، وبدون أن تتبنى القيم الغربية ومؤسساتها وممارساتها، بل ممكن أن تقوى هذه الثقافات بالحداثة، وتقلل من قوة الغرب النسبية، وقد بدأ العالم يصبح أكثر حداثة وأقل غربنة. وهناك صورتان متضادتان اليوم لقوة الغرب، فتبرز في الصورة الأولى هيمنة الغرب على السياسة والاقتصاد والإعلام والقوة العسكرية، بينما تتضح في الصورة الثانية ملامح تراجع حضارة الغرب، وانخفاض قوته السياسية والاقتصادية والعسكرية. فقد بطئ نمو الغرب الاقتصادي، وتوقف نموه السكاني، وزادت نسب البطالة فيه، ويعاني من نسبة عجز هائلة في الميزانية، وتردي في أخلاقيات العمل، وانخفاض نسب التوفير، وزيادة الجريمة والإدمان، كما بدأت تنتقل القوة الاقتصادية بسرعة لآسيا، وستتبعها القوة السياسية والعسكرية، وانتهت رغبة العالم القبول بالهيمنة الغربية، وتبخرت ثقة الغرب بنفسه ورغبته في الهيمنة.
فقد سيطر الغرب على نصف أراضي العالم في عام 1920، لتنخفض هذه النسبة في عام 1993 للربع. وأرتفع الإنتاج الصناعي الغربي في عام 1928 إلى 84.2% من الإنتاج الصناعي العالمي، ولينخفض في عام 1980 إلى 57.8%، وليرجع لما كان عليه في عام 1860. كما انخفض الناتج المحلي الإجمالي الغربي من 64.1 % من الناتج العالمي في عام 1900، إلى 48.9% في عام 1992، وانخفضت قوته العسكرية من 43.7% إلى 21.1% في عام 1991. فباختصار شديد، سيبقى الغرب الحضارة الأقوى حتى العقود الأولى من القرن الواحد والعشرين، وبعدها قد يبقى رائدا في الإبداع العلمي، وفي قدراته البحثية والتطويرية، وفي الاختراعات المدنية والعسكرية، ولكن ستقل سيطرته على موارد القوة الأخرى، والتي بدأت تتشتت بتصاعد دول خارج الحضارة الغربية. فقد وصلت سيطرة الغرب لهذه الموارد لذروتها في العقد الثاني من القرن العشرين، ومن المحتمل أن يسيطر الغرب في عام 2020 على 24% من أراضي العالم و 10% من سكانه و 30% من إنتاجه الاقتصادي الذي كان في ذروته 70%، و 25% من طاقة تصنيعه التي كانت في ذروتها 84%، وأقل من 10% من قوته العسكرية.
فقد حكم الرئيس الأمريكي ودرو ولسون، ورئيس الوزراء البريطاني لويد جورجس، والرئيس الفرنسي جورج كليمنسيو العالم في عام 1919. فحينما كانوا يجتمعون في باريس، كانوا يقررون أي بلد ستبقى على وجه الكرة الأرضية، وأي بلد ستختفي، وأية بلد ستخلق، وما حدود كل منها ومن سيحكمها، بل وكيف سيتقاسمون الشرق الأوسط والأجزاء الأخرى من العالم، وكيف سيتدخلون عسكريا في روسيا، وما هي الامتيازات التي سينتزعونها من الصين. وبعد مائة عام من ذلك التاريخ، لن تستطيع أي مجموعة صغيرة أخرى من القيادات أن تحظي بهذه القوة، فعصر سيطرة الغرب قد انتهى، وفي الوقت نفسه، سيعزز غروب الغرب وشروق الشرق انبعاث الثقافة اللاغربية. فعادة تتبع الثقافة القوة، وعبر التاريخ، ترافق انتشار الحضارة بازدهار الثقافة، كما استخدمت الثقافة لنشر قيم الحضارة وممارساتها ومؤسساتها في المجتمعات الأخرى. والحضارة العالمية تحتاج لقوة عالمية، وقد انتهى الاستعمار الأوربي، وتلاشت الهيمنة الأمريكية، وسيتبعهما تآكل الثقافة الغربية، وستبرز من جديد اللغات والعقائد والمؤسسات المحلية الأصيلة، وسيؤدي نمو حداثة المجتمعات اللاغربية لعولمة ثقافاتها من جديد.
لقد توجهت معظم قيادات الشرق للدراسة في دول الغرب في القرن العشرين، فاستفادوا من علوم الغرب وتدربوا في مختبراته العلمية ومصانعه، وأذهلوا بقوته العلمية والاقتصادية والعسكرية، وتأثروا بثقافاته وقيمه. وبعد أن بدأت تتلاشى هيمنة الغرب، وتطور التعليم والبحوث والصناعات في الدول اللاغربية، قل الاهتمام بتعليم الغرب، وبقت معظم قيادات الشرق المستقبلية في بلدانها، تستقي العلوم والتكنولوجيا من مؤسساتها، ولم تعد مجتمعات الغرب محط للأنظار والأحلام، وبدءوا البحث عن النجاح في مجتمعاتهم، وتعلموا التكيف مع قيمها وثقافتها. وبدت عملية الرجوع للأصل تغير المجتمعات اللاغربية، ليبدأ شبابها دراسة تاريخهم وحضارتهم ومعتقداتهم وقيمهم، لكي يحققوا حداثة مرتبطة بواقعهم وثقافتهم، لتستقر وتزدهر بلدانهم. ويبقى السؤال المحير: هل سيستطيع العرب تحقيق الحداثة بدون الغربنة؟ وهل فعلا لا يتضارب الدين مع الحداثة؟ وما هي نمط الحداثة التي يتمناها العرب لتحقيق أمنهم وتنميتهم الاقتصادية والاجتماعية؟ وهل يمكنهم تجنب ديمقراطية الغرب اللبرالية لكي يحققوا هذه الحداثة، أم سيحتاجون لانتخابات الغرب ومؤسساته المدنية وطريقة حكمه ونظرياته اللبرالية؟ ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان