من مفكرة سفير عربي في اليابان

منذ الصغر وأنا أسمع تكرار كلمة الأخلاق السامية، وأهميتها في الدين ودخول الجنة، ومع ذلك لاحظت تباين كبير في مجتمعاتنا العربية بين القول والفعل. وحتى حينما سنحت لي الفرصة لأداء فريضة الحج، لم إلاحظ الالتزام السلوكي الدقيق في الحج لهذه الالفاظ، ولن اتكلم عن التفاصيل، فكل من قام بحج بيت الله الحرام يعرفها بدقة. وقد حيرني ذلك لأطرح الأسئلة التالية: ما الذي يؤدي في المجتمعات العربية للاختلاف الشاسع بين القول والفعل في مسألة الأخلاق المجتمعية. أليست الفضيلة والأخلاق الحسنة هي هدف هداية الأديان؟ إلا يوفر الضمير المطمئن الصحة والسعادة؟ وما هو الضمير بيولوجيا؟ وهل يحتاج الضمير للعقل الجميل؟ وهل تطيل الأخلاق والعقل الجميل العمر؟ وما هي الأخلاق وما هو العقل الجميل؟
قمت ببحث في القواميس العربية لكي أحاول أن أتفهم مفهوم كلمة الأخلاق في مجتمعاتنا العربية، لوضع معيار لقيمة هذا التعبير، وقد يمكن بعدها قياس السلوك البشري بالمثاليات الأخلاقية. والذي يحير في مجتمعاتنا العربية حينما تطرح المسئوليات الأخلاقية للإنسان عبارات متناقضة كمثل: quot;هذا مثالي أكثر من اللازمquot;، أو quot;هذا غبي لا يعرف كيف يستغل الفرصquot;، أو قد تسمع عبارة أخرى: quot;والله هذا انسان عبقري عرف يسلك نفسه ويجمع ليه كم مليون.quot; والمشكلة الأعظم أن هذه العقدة ليست مقصورة على بعض الفئات الدنيا في مجتمعاتنا، بل أيضا تبرز في سلوك عناصر مهنية، بل قد تكون ذا مهن إنسانية فاضلة.
تعرف القواميس العربية الأخلاق بأنه شكل من أشكال الوعي الإنساني، وتعبر عن مجموعة من القيم والمبادئ، التي تحرك الأشخاص والشعوب، كالعدل، والحرية، والمساواة، بحيث ترتقي إلى درجة أن تصبح مرجعية ثقافية لتلك الشعوب، لتكون سندا قانونيا تستقي منه الدول الأنظمة والقوانين. وتجمع الأخلاق بين السجايا والطباع، والأحوال الباطنية، التي تدرك بالبصيرة والغريزة. بل يمكن اعتبار الخلق الحسن من أعمال القلوب وصفاته، وأعمال القلوب تختص بعمل القلب، بينما الخلق تكون عادة قلبيا وظاهرا. ويعتبر الدين بشكل عام سندا للأخلاق، والأخلاق هي مفهوم للقواعد الأخلاقية التي تضع معايير للسلوك، يضعها الإنسان لنفسه، أو يعتبرها واجبات تتم بداخلها أعماله، أو هي محاولة لإزالة البعد المعنوي لعلم الأخلاق وجعله عنصرا مكيفا، أي أن الأخلاق هي محاولة التطبيق العملي والواقعي للمعاني التي يديرها علم الأخلاق بصفة نظرية ومجردة. والكلمة اللانكليزية للأخلاق مستخلصة من الكلمة اليونانية إيثية، أي العادة، لتكون الأخلاق طقما من المعتقدات أو المثاليات الموجهة، والتي تتخلل الفرد أو مجموعة من الناس في المجتمع. وهنا قد نحتاج أن نفرق بين المسئولية القانونية والأخلاقية باختلاف أبعادهما، فالمسئولية القانونية تتحدد بتشريعات تكون أمام شخص أو قانون، لكن المسئولية الأخلاقية فهي أوسع وأشمل من دائرة القانون، لأنها تتعلق بعلاقة الإنسان بخالقه، وبنفسه، وبغيره. فهي المسئولية الذاتية للإنسان أمام ربه أو ضميره، أما دائرة القانون فمقصورة على سلوك الإنسان نحو غيره، وتتغير حسب القانون المعمول به، وتنفذها سلطة خارجية من قضاة، رجال أمن، ونيابة، وسجون. أما المسئولية الأخلاقية فهي ثابتة لا تتغير، وتمارسها قوة ذاتية، تتعلق بضمير الإنسان، الذي هي سلطته الأولي.
لنحاول عزيزي القارئ أن نتوسع في فهم قضية الأخلاق والضمير والعقل بشكلها البيولوجي. فكما ذكرنا سابقا بأن جسم الكائن البشري مكون من اعضاء مختلفة كالأطراف بالجلد والعضلات والعظام، والبطن بما يحتويه من كبد وأمعاء وكلية ومثانة، وصدر بما فيه من رئة وقلب وشرايين، ورأس بما فيه من مخ ومخيخ وبصلة شوكية. وتتكون جميع هذه الاعضاء من وحدات ميكروسكوبية صغيرة تسمى بالخلايا. والخلية هي مصنع بيولوجي يقوم بإنتاج ما يحتاجه الجسم من طاقة ومواد بروتينية، لبناء أنسجة وإفراز هرمونات تنظم وظائف أعضاء الجسم المختلفة.
والجدير بالذكر بأن العضو الأساسي الذي ينظم وظائف الجسم البشري بأعضاءه المختلفة هو العقل البشري. وقد ميز الخالق، جل شأنه، العقل البشري بجهاز عصبي معقد التركيب لم تستطع حتى الان العلوم البيولوجية أن تكشف عن اسراره المعقدة. ولكن من المعروف بأن هناك عدة مراكز في المخ للحركة والحس والسمع والبصر والتذوق، بالإضافة لمراكز ذكاء متشابكة ومعقدة. ومن أهم مراكز الذكاء في العقل البشري مركز الذكاء الذهني الذي من خلاله نقوم بعملية جمع المعلومات ورصدها وتحليها لتحديد قرارات رصينة. كما أن هناك مركز للذكاء الاجتماعي نستطيع من خلاله أن نتواصل مع أقراننا بطريقة تعامل مؤدبة ولبقة، وذكاء عاطفي نستطيع من خلاله أن نسيطر على عواطفنا الحادة، ونوجهها بشكل إيجابي للتعاون مع الآخرين لبناء المجتمع واستمرارية تطويره.
وبالإضافة لكل ذلك هناك مركز للذكاء الأخلاقي والروحي، والمعروف عادة بالضمير البشري، والذي يحدد تفاصيل فضائل الأخلاق الإنسانية والتي تميز الإنسان عن باقي الحيوانات الأليفة والمتوحشة. ويصر هذا الضمير أن يكون سلوكنا أخلاقي سوي صادق وفاضل. وحينما يتعارض سلوكنا البشري مع معايير الأخلاقية لمركز الذكاء الأخلاقي الروحي، يبدأ صراع مرير في داخل العقل البشري بين الجزء المسئول عن الذكاء الذهني ضد الجزء المسئول عن الذكاء الأخلاقي الروحي. وينتج من ذلك نشاط عصبي هروموني حاد، يثير بشكل حاد مركز العصبي المسمى بquot;الهيبو ثالاماسquot;.
ويسبب نشاط quot;الهيبو ثالاماسquot; زيادة الإفرازات الهرمونية من الغدة النخامية الموجودة في أسفل المخ، ليؤدي ذلك لتنشيط الغدد الهرمونية الأخرى، والتي من أهمها الغدة الدرقية، التي تفرز بغزارة هرمون الثيروكسين، ليزيد ذلك من كمية انتاج الطاقة، مع زيادة نشاط الأعصاب، والذي يترافق بالقلق ورعشة اليد. كما يزاد نشاط الغدة الكظرية، ليرتفع افراز هرمون الأدرينالين، الذي يقلص الشرايين ويؤدي لزيادة الضغط. كما يزداد إفراز هرمونات الاسترويد التي تزيد من كمية الأملاح في الدم فترفع الضغط، كما تزيد من تلف بروتينات العضلات ليهن الجسم، كما تزيد من تكون الكوليسترول الداخلي، فترتفع نسبته في الدم، ليترسب على الجدار الداخلي للشرايين، مما يؤدي لإنسدادها، فينقص الدم في أعضاء الجسم الأساسية، ليؤدي ذلك للجلطة القلبية، والسكتة الدماغية، وتموت الأطراف السفلية، وإحتشاء الأمعاء.
لذلك تحتاج الصحة وطيلة العمر لعقل جميل يحافظ صاحبه على قرارات تحليلية مدروسة، ويتعامل مع أقرانه بأدب وخلق ولطف، ويسيطر على عواطفه الحادة ليوجهها بأسلوب حكيم ظريف نحو قرارات ايجابية متزنة. كما يتصف العقل الجميل بخلق لطيفة وأخلاق حميدة، تقرب بين الإنسان مع أفراد عائلته ومجتمعه، وذلك بتعامله مع التحديات المجتعية بسلوك حكيم صادق وفاضل. والجدير بالذكر هنا أيضا بأن quot;الذكاء الجسميquot; يوجه الإنسان لكي يتناول غذاء صحي، ويمارس رياضة مستمرة.
وبينما عانت شعوب العالم من الأمراض الوبائية في القرن العشرين، بدأت تنتشر الأمراض المزمنة اللاوبائية (السكري والضغط والكوليسترول والسرطان) في القرن الواحد والعشرين، وقد تبلور مفهوم جديد لهذه الأمراض بربطها بتغيرات نمط الحياة الجديدة، والصراع المستمر بين الذكاء الذهني والذكاء الأخلاقي الروحي، والذي يؤدي لصراع شديد بين العقل والضمير، ليؤدي لزيادة القلق، بنتائجه المدمرة على الجسم، مما يؤدي لشيخوخة الخلايا المبكر، مع ما يرافقها من أمراض مزمنة لاوبائية.
وقد نحتاج هنا للتفريق بين العمر الزمني والعمر البيولوجي، فيعبر مفهوم العمر الزمني عن السنوات التي استهلكت من عمر الإنسان، بينما يمثل العمر البيولوجي مدى كفاءة الخلية في أداء وظائفها بالجسم البشري. ويعتمد مدى نشاط وظائف هذه الأعضاء على كفاءة أداء الخلايا في الاستفادة من الماء والهواء والغذاء الذي نستهلكه، والمرتبط أيضا باداب سلوك حياتنا في التحدث والأكل والشرب والتدخين وشرب الكحوليات والرياضة والتعرض للضغوط الحياتية والصراع بين العقل والضمير، وحينما تبدأ اضطراب أداء وظائف هذه الخلايا تبدأ وظيفيا الشيخوخة البيولوجية.
يقول السيد بوب ديلمونتيك الرياضي الغربي، والذي يتجاوز الخمسة والثمانين من العمر، والذي يبدوا كهلا رياضيا في الأربعينات: quot;لدي عقل سليم، مترافق بتغذية صحية، ورياضة دائمة.quot; ويعتقد بوب بأن: quot;العقل البشري لا يشيخ، ولكنه يضمر بسبب عدم الاستخدام. ويبدأ الموت في داخلنا حينما نتوقف عن استخدام عقولنا وأذهاننا.quot; وينصح بوب بأن يكون: quot;للإنسان هدف أخلاقي سامي في الحياة ويبدل قصاري جهده لتحقيقه، وبذلك يبعد الشيخوخة وأمراضها.quot; فعزيزي القارئ العقل الجميل يحقق العمر الطويل والسعيد. ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان