من مفكرة سفير عربي في اليابان

عاني التاريخ الأوربي من ثقافة الخلط بين الدين والسياسة، وقد عبر الصحفي وليم باف عن ذلك بصحيفة اليابان تايمز في شهر يوليو الماضي بقوله: quot;عانت أوروبا من حروب الدين والايديولوجيات، لتنتهي هذه الحروب بمعاهدة وستفاليا، ولتنشأ نظام سيادة الدول، ولتعاني أوروبا من حروب الثورة الفرنسية ولتنتهي بهزيمة نابليون في معركة وترلو، وليتم مؤتمر فينا في عام 1815. ولم يتحقق السلام بعد هذا المؤتمر، ولكن أدركت القوى العظمى الأوروبية أهميته، وقد عكست خلافات القرن التاسع عشر عن صعود النزعات القومية في النظاميين العثماني والهسبرجي، لينذر بما حدث في القرن العشرين. وقد كان هناك استقرار نسبي في أوربا قبل عام 1914، ولم يتحقق هذه الاستقرار مرة ثانية إلا بعد انتهاء حرب القطبين الباردة.quot;
وتعاني الثقافة الشرق اوسطية اليوم من quot;الحقيقة السياسية المطلقةquot;. فالحقيقة المطلقة في الدين أمر معروف ومحتوم، فللأديان أصولها وفروعها وقوانينها المطلقة، فمثلا الصلاة، والصوم، والزكاة، والحج، هي واجبات دينية مطلقة ليست قابلة للنقاش. وقد درس رجال ديننا الافاضل علوم الدين الروحانية ليتبحروا في فهمها وتفسيرها. وأما أمور الدنيا فهي أمور نسبية متدبدبة ومتغيرة، ولا نعني بذلك أمور المصالح الدنيوية كالسياسية والاقتصاد، بل أيضا حتى العلوم الطبيعية الكيماوية والفيزيائية. فمثلا اعتقدت قوانين الفيزياء عبر التاريخ، بأن الضوء هو أسرع الموجات الفيزيائية، لتؤكد الأبحاث الحديثة بأن هناك موجات أخرى أسرع منها.
ويحزنني حينما يأتي شخص، يدعي بأنه رجل دين quot;مسيسquot;، يصارع اقرانه ليستفرد بالحكم باسم الأكثرية العددية، بعد أن عين نفسه وصي على هذه الأكثرية، لاعتقاده بأنه الوصي للخالق جل شأنه على الأرض، ويفهم وقائع الكون كلها، ويصر بأن ما يقوله في أمور الدنيا والسياسة هي حقائق مطلقة، ليست للنقاش، ومن يناقشها فقد أنحرف عن السراط المستقيم. بل يحول خطبة الجمعة، من خطبة روحانية أخلاقية، تحفز المواطن على الفضيلة، والخلق الحميدة، والتناغم المجتمعي، وتشجعه ليصبح مواطن منتج ومبدع، إلى خطبة تحفزه على الانفلات المجتمعي، والانقلاب على الانظمة والقوانين، ليتحول لمواطن غاضب وحاقد وفاشل في دراسته وعمله، وقد ينتهي به المطاف للتلوث، بشلة تقتل، وتحرق، وتدمر، حالمة لتحويل البلاد لصومال ثانية.
وقد عانت المنطقة من الاستعمار الغربي، وبعد أن ناضلت شعوبها لتحقيق الحرية والتنمية، تعرضت لسلطات quot;الحكم المطلقquot;، التي استخدمت الايديولوجيات السياسية، أو الروحانيات الدينية للاستفراد بالسلطة. وقد لاحظنا في الانتخابات الايرانية السابقة رفض لجنة الوصاية على الشعب ترشح المرأة للرئاسة، ، بل رفضت أيضا أكثر من 670 مرشحا من الرجال، وضمنهم رؤساء حكومات ايرانية سابقة، وعلى رأسهم الرئيس الإيراني السابق هاشمي رفسجاني، مما أدى به للرد بانتقاد النظام بقوله: quot;الرياء، والنفاق، والتشدق بالخرافات، واستغلال مشاعر الناس الدينية، بات الاسلوب المفضوح للعبة السياسية. وقد ترشحت للرئاسة للحد من الاحقاد الطائفية، وتوطيد الوحدة بين السنة والشيعة، في العالم الاسلامي. وعندما تحول التحجر، إلى سياق وأسلوب فكري، ظل في مرحلة الحضانة تاريخيا، ونراه اليوم يخرج من سباته، لينتشر في المجتمع، وينشط بوعي أو دون وعي، ويدعون ذلك تحت ذريعة التقرب إلى الله.quot;
كما انتقد الرئيس الجديد الدكتور حسن روحاني، بصورة غير مباشرة النظام، حينما وعد الشباب الايراني، الذي حطم اماله في الحرية والانفتاح احمدي نجاد، بأنه سيوقف نشاط ما سمي بالشرطة الاخلاقية، الذي تعتقل النساء لعدم لبسهم الحجاب بالطريقة المطلوبة، ويلغي الرقابة على الانترنت، ويبيض السجون من المعتقلين السياسيين. فقد توسعت دكتاتورية الحكم الشرق أوسطية الايديولوجية من ديكتاتورية سياسية، إلى ديكتاتورية شخصية أيضا. كما أن تجربتنا في مملكة البحرين مع الاحزاب المسيسة دينيا محزنة. فخلال تجربتها في العقد الماضي، لم تختار امرأة واحدة للنزول في انتخابات المجلس النيابي، فهي تنادي بزيادة الديمقراطية من جهة، ومن الجهة الاخرى ترفض نصف المجتمع من النساء، من أن يلعبوا دورهم الطبيعي في المجتمع، ليدافعوا عن حقوقهم ومصالحهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
كما عرضت الصحافة اليابانية في شهر يوليو الماضي تقيم للتجربة المصرية، فكتبت صحيفة اليابان تايمز في افتتاحيتها، وبعنوان، متى يكون الانقلاب ليس انقلابا، تقول فيه: quot;لقد أزيل السيد محمد مرسي، الذي انتخب رئيسا لمصر في العام الماضي من مركزه، من قبل الجيش المصري، بعد أن فقد الدعم من أكثرية المواطنين المصريين. وبينما تحاول الحكومة المصرية الجديدة القيام بمسئوليات عملها، حان الوقت لتحديد معني الديمقراطية: فالحصول على أكثر من 50% من الاصوات الانتخابية ليست إجازة للحكم كما نشاء، فالديمقراطية أكثر من أرقام استبدادية.quot;
فقد كان السيد مرسي أحد القادة الاسلاميين حينما رشح لانتخابات الرئاسة المصرية، وقد حقق فوزا بحصوله على 51.7% من الاصوات. وقد استقال كما وعد عن مركزه كرئيس لحزب الحرية والعدالة، الحزب السياسي الذي شكلته حركة الاخوان المسلمين في مصر بعد انقلاب أبعد فيه حسني مبارك. ولم تكن عملية الحكم سهلة للرئيس مرسي، لذلك قرر أن يعطي نفسه صلاحيات غير محدودة في نوفمبر الماضي، لكي يقاوم عناصر النظام السابق، وبدون أي تشريعات قضائية، وبعد حقد شعبي عارم قرر أن يلغي القرار. ولكن استمر القلق الشعبي في التزايد، باستمرار التردي الاقتصادي، وزيادة البطالة، وقلة توفر الغذاء والطاقة.
كما زادت الامور سوءا حينما حاول مرسي تركيز الاخوان في مختلف مفاصل الحكم، بدون أي اعتبار للمعارضة بأطرافها المختلفة. وقد زاد تخوف اللبراليين من أن يتحول الحكم لنظام دكتاتوري متطرف باسم الدين، وخاصة بعدم اكتراث مرسي لاصوات 48.3 % من المواطنين، الذين رشحوا شخص اخر للرئاسة. وقد انتهت النتيجة باحتجاجات شعبية عارمة، مدعومة من الجيش، مطالبة بحكومة جديدة. وقد حذر الجيش بأنه خلال 48 ساعة إن لم يستطع الرئيس من تهدئة الوضع، سيضطر الجيش استلام مسئولياته الوطنية، لمنع تدهور البلاد في نفق مظلم. ولم يستجب مرسي لنداء الجيش، مما أدى لعزله في الثالث من يوليو، وتعين مجلس استشاري للعمل لتعين حكومة تحالف، وتعديل الدستور، والتهيئة لانتخابات جديدة. فقد فقد العسكر الثقة في شريكه مرسي، الذي تصور بأنه يستطيع التعاون معه، في شراكة متناغمة لحللة الوضع في البلاد، وخاصة أن الجيش مسئول عن 40% من الاقتصاد والصناعة المصرية، وكان من واجبه حماية منجزاته الصناعية كهدف أساسي.
وتسترسل الصحيفة اليابانية في تقيم الوضع المصري بقولها: quot;لقد عاني مرسي من عدم فهم معني الديمقراطية، فقد تصور بأن تحقيقة أكثر من 50% من الاصوات اجازة له لعمل ما يشاء، ويتناسى الاصوات التي لم تنتخبه. ومع الاسف هذه العقلية منتشرة عالميا، فهي واضحة في تركيا، كما كررها جورج بوش الابن في خطاباته كلما اعترض الشعب الامريكي على سياساته الغير متزنة، وبقوله: نحن نملك لحظة الارقام، اصوات حزبنا في انتخابات عام 2004. فمن الضروري الفهم بأن الاغلبية ليست هي الديمقراطية، بل الديمقراطية هي الية، كما انها نتيجة، فاحترام الخاسر مهم، حينما تصل الغنائم للمنتصر. فما حدث في مصر ما هو إلا نتيجة لعدم احترام الالية الديمقراطية، والمسئولة عن احترام رغبة الشعب المصري في تحقيق طموحاته الحياتية، وليس من بين طموحات هذا الشعب ايديولوجيات الاخوان.quot;
كما كتب الصحفي جورج وول، في نفس صحيفة اليابان تايمز يقول: quot;لم يعلم الرئيس المصري السابق محمد مرسي، بنصيحة الرئيس الأمريكي توماس جيفرسون، حينما قال: الابداعات العظيمة يجب إلا تفرض على الأغلبية الضيئلة. فمحاولة مرسي أن يحقق اهدافه المضادة للسياسات اللبرالية والحداثة العصرية لمصر، فقط، لأنه حصل على 52% من الاصوات، كانت محاولة مزعجة، وغير حكيمة. ومع أنه من الصعب القبول بانقلاب عسكري على نتائج ديمقراطية، ولكن من الاصعب أن نأسف على انقلاب شعبي وقائي، منع استغلال النجاح الديمقراطي لفرض سياسات معادية لتطوير ثقافة ديمقراطية.quot;
ويقيم جورج وول الوضع بقوله: quot;فعادة يتلون الاستبداد بألوان متعددة، وبعضها أسوء من البعض الاخر لأنها شمولية ومزمنة، فالاستبداد العلني لحزب مرسي، الاخوان المسلمين، والذي وعد بعدم الفصل بين الدين والسياسة، ليعني ذلك استحالة التعددية، ومعادة الحداثة، والتي هي ضمانة أكيدة لتخلف اقتصادي مستقبلي. فلا يجوز خلط quot;اللاهوتquot; بالسياسة، الذي يعتبر التفاهم والحلول الوسط، ارتداد على القيم، بينما من أساسيات السياسة التفاهم والتناغم والحلول الوسط.quot; ليحقق الفوز الطرفين، ويحصل كل طرف نصف كأس مليء، لا أن يحصل طرف كأس مليء، والطرف الاخر كأس فاضي.
quot;لقد رفض الرئيس الأمريكي أبراهام لنكون تصورات منافسه ستيفن دوغلاس، حينما طالب ستيفن بنشر العبودية في الولايات لأن أغلبية الشعب يؤيدها. بل أكد الرئيس لنكون أن لم تكن الأغلبية الحاكمة مقيدة بالقيم الطبيعية لحقوق الانسان، ستبقي حكم الاغلبية هي القوة المستبدة، وتبقي الاقلية مهمشة. ففكرة أن القوي له الحق في حكم محرر من القيود، إذا كانت له قوة عددية، ما هي إلا فكرة همجية، فأي فكرة تعتبر القوة العددية هي الحق، هي فكرة مجملة بالتصاقها الانتهازي بالديمقراطية. لذلك قد يكون حسم العسكر المصري للموقف، أقل خطرا من مرسي، لأنه يفتقد لما يتمتع به مرسي، التلون الديمقراطي، مهما كان سطحيا، وسريع الزوال.quot;
كما كتب البروفيسور ميجان اوسوليفان، الاستاذ بجامعة هارفرد مقال بعنوان، ما الذي من الممكن أن تتعلمه مصر من العراق، في صحيفة اليابان تايمز، يقول فيه: quot;لقد أكدت تجربة مصر بأن الاغلبية الديمقراطية غير ناجحة في المجتمعات الانتقالية. وحتى حينما يحقق حزب ما الاغلبية المسيطرة، والذي لم تكن حقيقة الانتخابات المصرية، عليه أخذ اعتبار لما تحتاجه وترغب فيه المجموعة المعارضه، التي لم تنتخب الحزب الحاكم، وخاصة بأن المؤسسات المدنية الاخرى ضعيفة في المراحل الانتقالية للديمقراطية، لذلك سيؤدي الالتزام المطلق بالديمقراطية الاغلبية العددية لزيادة ضعف الجزء الاخر من المجتمع، والذي هو في الاساس ضعيفا وبعيدا عن القوة، كما أن الاقصاء السياسي يولد التمرد وفقدان الصبر، وذلك ما لاحظناه في مصر مؤخرا.quot;
quot;فقد اعتقد مرسي، بتسجيله فوز بسيط في الانتخابات على منافسه، يعطيه الحق في أن يهمش النصف الباقي من المنتخبين، ويحول مصر إلى دولة اخوانية، بدل أن يحاول أن يحقق اتفاق متناغم بين جميع المصرين لطريق مستقبل مصر. فقد اعتبر مرسي بأن المعارضة مشلولة، كما بدل جهدا كبيرا لتهميش قوى العدالة والأمن، وحاول أن يفرض دستور أخواني على الشعب المصري، فكانت الضربة القاصمة لحكمه. ومع أن الانقلاب العسكري صدم الكثيرين، ولكن عدم تحمل المصرين لمرسي صدم القلة.quot;
ويتساءل البروفيسور: ما علاقة كل ذلك بالعراق؟ ويعقب: quot; الدرس واضح، فقد كرر المالكي رغبته بأن يحول العراق لبلد الديمقراطية الاغلبية العددية، وذلك بتململه من قيود حكومة وحدة وطنية. فهو يحلم بأن يحكم بدون اعتبار للقوى السياسية والطوائف والأعراق الاخرى، مع أنه لم يعبر عن ذلك لفظا، ولكن محاولته لاعتقال القيادات السياسية السنية، ليتحكم في الحكومة والجيش، أدى لتهميش زملائه الاخرين، وحوله لحاكم مستبد ... فديمقراطية الأغلبية العددية لا تكفي لحكم مستقر تنموي طويل الامد ... والخطأ في المجتمعات الانتقالية كمصر والعراق هو الاعتقاد بأن من الممكن أن تنجح الحكومة في قرارت تنمية سريعة بدون مشاروة جميع الاطراف والاتفاق معها.quot; ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان