من مفكرة سفير عربي في اليابان

كتب بروفيسور جامعة هارفارد، هنري كيسنجر، وزير خارجية الولايات المتحدة سابقا، في كتابه، الدبلوماسية، الذي صدر في عام 1994، يقول: quot;في كل قرن، تبرز دولة، بقوتها وبإصراريتها، وباندفاعها الذهني والأخلاقي، لتشكل النظام الدولي باكمله، وبحسب قيمها، وكأنه قانون طبيعي في الوجود. ففي القرن السابع عشر، قادت فرنسا بزعامة، كاردينال رشيليو، حركة التعاون الدولي، مرتكزة على دولة المواطنة، ومدفوعة بالمصلحة الوطنية كهدفها الرئيسي. وفي القرن الثامن عشر، طورت بريطانيا العظمى مفهوم توازن القوى، والتي سيطرت على الدبلوماسية الأوربية لمائتي عام. وفي القرن التاسع عشر، أسس مترينش النمساوي، مفهوم الاتفاق الأوربي، بينما ألغاه بسمارك الألماني، ليحول الدبلوماسية الأوربية، إلى لعبة دموية باردة لسياسة القوة.quot;
ويتوجهه كيسنجر في نقاشه للولايات المتحدة فيقول: quot;وفي القرن العشرين، لم تؤثر دولة على العلاقات الدولية، بشكل حاسم، وفي نفس الوقت بشكل متردد، كالولايات المتحدة. كما لم يكن هناك مجتمع مصر على التدخل، وبدون إذن، في الأمور الوطنية للدول الأخرى كالمجتمع الأمريكي، بل استمر في الإصرار بأن قيمه هي قيم عالمية، يجب أن تطبق بحذافيرها على جميع الدول. كما لم تكن هناك أمة أكثر برغماتية في التعاملات الدبلوماسية اليومية، وأكثر ايديولوجية في ممارسة قناعاتها الاخلاقية كالولايات المتحدة، وبالإضافة لم تكن دولة أكثر منها ترددا في التدخلات الخارجية، وحتى حينما كانت ملتزمة بقوة لحلفائها.quot;
وقد أنتهى القرن العشرين بزعامة الولايات المتحدة للعالم، القرن الذي وصفته وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، مادلين أولبريت، بأنه من quot;أكثر القرون دمويا في التاريخ البشريquot;، وبدأ القرن الواحد والعشرين، ويبقى السؤال: هل سيستمر القانون الطبيعي الذي تحدث عنه كيسنجر في الألفية الثالثة؟ ومن هي الأمة، والحضارة القادمة، المهيأة لزعامة العالم، في القرن الحادي والعشرين؟ أم سيتغير هذا القانون الطبيعي، في الألفية الثالثة، بعد أن حولت التكنولوجية العالم، من كوكب كوني شاسع، إلى قرية تكنولوجية صغيرة؟ وهل هذا التمرين الدبلوماسي الاستقرائي، مهم للعرب، لتحديد حلفائهم في تشكيلة هذا القرن؟
كتب الصحفي والمفكر الأمريكي، فريد زكريا، في مقدمة كتابه، عالم ما بعد أمريكا، يقول: quot;هذا الكتاب لا يناقش الانحدار الامريكي، بل يتحدث عن صعود الاخرين. فيبرز الكتاب التغيرات العظيمة القادمة التي سيمر بها العالم، والتي تناقش كثيرا، ولكن بفهم نقاش سطحي .... لقد مر العالم بثلاثة تغيرات قوى في القرون الخمس الماضية، وهي تغيرات أساسية في توزيع القوى، والتي شكلت العالم الدولي بسياساته، واقتصاده، وثقافته. فقد كان التغير الأول صعود العالم الغربي، والذي بدأ في القرن الخامس عشر، وتسارع في القرن الثامن عشر، لينتج حداثة العلوم والتكنولوجية والتجارة والرأسمالية، والثورتين الزراعية والصناعية، لتؤدي لهيمنة غربية طويلة الامد. وجاء التغير الثاني في نهايات القرن التاسع عشر، بأن تصبح الولايات المتحدة أقوى دولة في العالم، بعد الامبراطورية الرومانية، بل تجاوزت قوتها، باقي دول العالم معا. ففي معظم القرن العشرين، سيطرت الولايات المتحدة على عولمة الاقتصاد، والسياسة، والعلوم، والثقافة، بينما خفت هذه السيطرة في العقدين الماضيين. ونحن نعيش اليوم التغير الثالث للقوة في العصر الحديث، وقد يسمى، صعود البقية... وستتميز المرحلة القادمة انتقال القوة من الدول، إلى لاعبين جدد، فقد مكنت التكنولوجية الحديثة المجموعات والافراد، وأضعفت الهرمية، والمركزية، والسلطة. فكثير من المسئوليات الحكومية انتقلت للاعبين جدد، كمنظمة التجارة العالمية، والاتحاد الاوربي، ومنظمات حقوق الانسان ... ليبرز نظام دولي جديد.quot;
وقد صرح روبرت جيت وزير الدفاع الامريكي السابق، في عام 2007 بأنه: quot;طلب من الحكومة الامريكية توفير ميزانية أكبر لأدوات القوى الناعمة، الدبلوماسية، والمساعدة الاقتصادية، والاتصالات، لأن القوة العسكرية لا تستطيع، لوحدها، حماية المصالح الأمريكية حول العالم.quot; كما صرحت السيدة هليري كلنتون، وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة في عام 2009 بأن: quot;لا تستطيع أمريكا أن تحل المشاكل المعقدة لوحدها، كما أن العالم لا يستطيع حلها بدون أمريكا. وعلينا استخدام ما سمي بالقوة الذكية، وهي جميع أدوات القوة التي نملكها.quot;
تلاحظ عزيزي القارئ بأن المسئولون والمفكرين الغربيين بدءوا الوعي بأن العالم تحول لقرية عولمة صغيرة، ويحتاج لتعاون دولي مثمر لمعالجة تحدياته، بعد أن انتهت قرون زعامات الأحادية القطبية. وقد وعي ذلك رجال الفكر والسياسة الأسيويين، فقد كتب دبلوماسي عالمي مرموق، ومفكر قدير، وهو عميد كلية quot;لي كون يوquot; للسياسات العامة، ووزير خارجية سنغافورة السابق، البروفيسور كيشور محبوباني، مقال بصحيفة اليابان تايمز في الثالث من شهر يونيو الماضي، وبعنوان، الانتقال بسلاسة للمركز الثاني - لم يكن ما توقعه الأمريكيون، يقول فيه: quot;لقد جاء الوقت الذي نفكر فيه ما لم يكن تصوره. فعصر السيطرة الأمريكية على الشؤون الدولية قد قرب على الإنتها، وحينما نقترب من ذلك، سيبقى السؤال الرئيسي ما مدى الاستعداد الأمريكي لذلك. فالصعود الأسيوي خلال العقود القليلة الماضية هي أكثر من قصة تنمية اقتصادية سريعة، بل هي قصة منطقة تعيش نهضة استنارت فيها عقول شعوبها، واستعادت افاقها المستقبلية. فالتحرك الأسيوي لاستلام موقعه الرئيسي في اقتصاد العولمة وصل لدفعة لا يمكن إيقافها، ومع أن التحولات الاجتماعية لا تمر عادة بدون جروح، ولكن لم يعد هناك شك بأن القرن الأسيوي في الأفق، وبأن تشكيلة العالم ستتغير بشكل جذري.quot;
ويؤكد البروفيسور محبوباني على أهمية مسئولية قيادات العولمة، من سياسيين ومفكرين، في تهيئة مجتمعاتهم للنقلة العالمية القادمة، ويتصور بأنه حتى الان الكثيرين من القيادات الأمريكية يتجنبون هذه المسئولية. فقد سؤل نائبين في الكونجرس الأمريكي، في منتدى الاقتصادي العالمي بديفوس، في العام الماضي، عن مستقبل القوة الأمريكية، فأصرا الاثنان بأن الولايات المتحدة ستبقى الدولة الأقوى في العالم. وحينما سؤلا عما إذا كانت الولايات المتحدة مستعدة لكي تكون الاقتصاد الثاني في العالم، أبدا الاثنان معا تحفظهما، على هذا السؤال.
ويحترم محبوباني انفعال هاذين النائبين الأمريكيين، لأن الاعتراف باحتمال أن تكون الولايات المتحدة الثانية عالميا، قد يعني انتحارا سياسيا لأي سياسي أمريكي، حيث على هؤلاء النواب المنتخبين التكيف مع توقعات منتخبيهم. ولكن يصر محبوباني بأنه من واجب المفكرين مسئولية التفكير فيما لا يمكن التفكير فيه، والتحدث في ما لا يمكن التكلم فيه، حيث من المفروض عليهم أن يدرسوا جميع الاحتمالات، وحتى المختلف عليها، لتهيئة شعوبهم للتطورات المستقبلية. فالحوار الصريح والصادق، للافكار الغير مألوفة، هي من المظاهر الأساسية للمجتمعات الديمقراطية.
ويعتقد البروفيسور محبوباني بأن المفكرين الأمريكيين لم يلتزموا بهذه المسئولية، حينما صرح رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية، ريشارد هيس، مؤخرا، بأن الولايات المتحدة قد دخلت العقد الثاني من القرن الأمريكي. وقد تمنى محبوباني بأن يكون هذا التوقع صحيحا، ليستفيد جميع العالم منه، لأن وجود اقتصاد أمريكي حيوي قوي، مترافق بطاقة أحفورية ومتجددة وفيرة ورخيصة، بالإضافة لاختراعات جديدة سريعة، ستنعش الاقتصاد العالمي بأكمله. ولكن لو حصل انتقال لمركز جاذبية القوة الاقتصادية العالمية إلى أسيا، ولم يكن الأمريكيين مستعدين لهذه الصدمة، سيعني ذلك بأنهم نائمون عن ما حققه باقي العالم من تقدم. وهنا يعلق محبوباني بقوله: quot;لذلك يجب أن يخبر الأمريكيين بالحقيقة الرياضية البسيطة، فبكون سكان الولايات المتحدة يمثلون 3% من سكان العالم، لن تستطيع هذه الدولة الاستمرار في السيطرة على باقي العالم، لان الأسيويون الذين يمثلون 60% من سكان العالم، لم يبقوا متخلفين عن التنمية.quot;
ويأسف البروفيسور محبوباني باستمرارية اعتقاد الكثير من الأمريكيين بأن الولايات المتحدة هي الدولة الفاضلة الوحيدة، ومنفردة بكونها شعلة مضيئة في عالم مظلم غير مستقر، كما ينتقد المفكرين الأمريكيين لفشلهم في الوقوف أمام هذه الافكار الخاطئة، التي تخلق ثقافة جهل مظلمة. كما يؤكد البروفيسور بأن: quot;ألشعب الأمريكي مستعد عادة للأخبار المتفائلة، ولكن خبر الصعود الأسيوي ليس خبرا سيئا، فعلى الولايات المتحدة أن تعي بأن الأسيويون لا يحاولون السيطرة على الغرب، بل يريدون منافسته، لكي يخلقوا طبقة متوسطة حيوية، فيوفروا السلام والاستقرار والازدهار، الذي تمتع به الغرب لفترة طويلة. وستحول هذه التغيرات الاجتماعية والفكرية الشرق الأسيوي من قوة اقتصادية إلى قيادة عولمة ناجحة. فمثلا الصين، التي استمرت مجتمعا مغلقا، تملك ذهنا متفتحا اليوم، بينما انغلق المجتمع الأمريكي، المتفتح سابقا. فبزيادة الطبقة المتوسطة الأسيوية من 500 مليون اليوم إلى 1750 مليون في عام 2020، لن تستطيع الولايات الامريكية تجنب حقائق اقتصاد العولمة الجديدة، لفترة أطول. فالعالم يمر بتحولات دراماتيكية تاريخية في تغير القوى، ولكي يستعد الامريكيين لهذه التحولات، عليهم تجنب الافكار المتكلسة، والفرضيات البائدة، كما عليهم أن يحرروا أفكارهم المحرمة، وهذا هو التحدي الذي يواجهه الشعب الأمريكي اليوم.quot;
ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل هذا التحدي هو تحدي أمريكي فقط، أم هو أيضا تحدي شرق أوسطى، بعد أن اعتمدت المنطقة في القرن الماضي على الغرب الأمريكي كحليف صديق للحماية والاستقرار والازدهار؟ أم ستعي دولها هذه الحقيقة، وتبدأ دراسة تحالفاتها المستقبلية في تشكيلة الألفية الثالثة، وفي عالم العولمة الجديد؟ وهل ستكون هذه الدول حليف عالمي مؤثر ليحقق الأمن، والاستقرار، والتنمية المنشودة، للمنطقة وللعالم؟ وهل ستحتاج دوله لكي تحقق ذلك، لجمع طاقاتها الاقتصادية في سوق شرق أوسطي مشتركة، ولتتحول تدريجيا لتجمع أقليمي شبيه بالاسيان؟ ولنا لقاء.
.
سفير مملكة البحرين في اليابان