من مفكرة سفير عربي في اليابان

طرحنا عزيزي القارئ في مقدمة الجزء الأول من هذا المقال الأسئلة التالية للمعارضة المصرية: هل ستعطي هذه المعارضة الفرصة للأخوان، وتساعدهم، ليتثبتوا جدارتهم ونجاحهم، ليشاركوا في تحقيق التنمية المنشودة لمصر؟ وهل ستساعد المعارضة في خلق ثقة وتناغم بين فئات الشعب المختلفة: المتفرجة، والمعارضة، والمؤيدة، والحاكمة؟ وهل ستقبل بالدستور الذي قبلته ألأكثرية التي صوتت عليه، بالرغم من الملاحظات التي سجلها البعض؟ وهل فعلا هناك حاجة لتعميق الخلاف في هذه المرحلة على موضوع الدستور؟ ألم تحقق اليابان تنميتها الاجتماعية والاقتصادية بدستور فرض عليها العدو الغربي المنتصر؟ وهل هناك دساتير كاملة، أم جميعها تتطور مع تقدم تجربة التنمية والاصلاح والديمقراطية؟ ألا تخاف المعارضة من أن تؤدي الخلافات المتلاحقة لدمار الاقتصاد المصري، ولبروز الحركات المتطرفة، التي بدأت تنمو نواتها في سيناء؟ ألسيت مشكلة التطرف والإرهاب من أكثر تحديات العولمة المتشابكة والمعقدة؟
لنحاول أن نتدارس عزيزي القارئ تجربة اليابان مع الديمقراطية والدستور بعد ما حكمت قرون طويلة من قبل دكتاتورية الإقطاع والعسكر. فقد بداء عصر ميجي بوضع دستور لتحديث وتصنيع البلاد بعد أن زالت اليابان جدار العزلة وبدأت تنفتح على العالم الخارجي. وقد صدر الدستور الياباني في العصر الحديث عام 1889، وأعتمد على قوانين الملكية الدستورية مستفيد من تجربة الجمهورية البروسية. وقد شمل البرلمان مجلس نواب منتخب، ومجلس نبلاء معين من جلالة الامبراطور. وقد تحولت اليابان بهذا الدستور إلى دولة صناعية من خلال تطوير التعليم المتقدم والتدريب المهني والتصنيع التكنولوجي. وأستمر العمل بدستور ميجي حتى انتهاء الحرب العالمية الثانية واستسلام اليابان للحلفاء. وقد فرض الحلفاء على اليابان إلغاء دستورهم والعمل على وضع دستور جديد. وقد أكدت معاهدة بوستدام بأنه على ألحكومة اليابانية الجديدة أن تزيل جميع العوائق لتطوير الديمقراطية بين الشعب الياباني، والسماح بحرية التعبير والتفكير والعقيدة، بالإضافة لاحترام حقوق الإنسان، ويجب أن تترسخ هذه المفاهيم في الدستور الجديد. وأكدت قوات الحلفاء بأنها ستنسحب حينما تتحقق هذه الأهداف من خلال حكومة منتخبة ومسئولة وتمثل الشعب. وقد أكد القائد العسكري الأمريكي الجنرال دوغلاس ماكأرثر بأن حكومته لن تفرض على اليابان دستورا جديدا، بل ستشجع الشعب الياباني والحكومة اليابانية لبدء العمل على الإصلاحات الديمقراطية في البلاد.
لقد كان رئيس الوزراء شدي هارا كيجورو مترددا في القيام بأي تغيرات جذرية على الدستور، فعين رئيس الدولة ماتسوموتو جوجي، مع لجنة من أساتذة القانون الدستوري، للعمل على صياغة دستور جديد للبلاد. وقد صدرت توصيات اللجنة في فبراير عام 1946، وكانت توصياتها محافظة جدا حسب رأي الحلفاء، ولم تضيف أية تغيرات جذرية على دستور ميجي. فرفضه القائد العسكري الجنرال ماك أرثر، وطلب من مسئوليه الأمريكيين أن يقوموا بصياغة دستور جديد تماما. وقد صاغ معظم بنود الدستور الجديد اثنان من العساكر الأميركيين، يحملان شهادات في القانون، وهما ميلو رويل، وكورتني وتني. وقد حاول الاثنان الأخذ بعين الاعتبار دستور ميجي ورأي رجال القانون اليابانيين. وقد قدم مشروع الدستور الجديد للمسئولين اليابانيين كمفاجأة في يوم 13 فبراير 1946، مع الإنذار المبطن بمحاكمة الإمبراطور كمجرم حرب، إذا لم يوافق عليه.
وفي السادس من شهر مارس عام 1946، أعلنت الحكومة للشعب الياباني عن مشروع الدستور الجديد. وفي العاشر من شهر أبريل عام 1946، أجريت الانتخابات لاختيار أعضاء مجلس النواب للبرلمان الإمبراطوري التسعين. وقد طور قانون الانتخابات ليسمح للمرأة، ولأول مرة المشاركة في الانتخابات. وعرض الدستور الجديد على أساس أنه مشروع قانون لمراجعه تعديل لدستور ميجي السابق، لتجنب أية مشاكل قانونية. وصدر الدستور في الثالث من شهر مايو عام 1947، بعد موافقة ثلثي أعضاء البرلمان عليه، وحصوله على الموافقة في ألاستفتاء الشعبي، وتوقيع جلالة الإمبراطورعليه.
وقد حول الدستور الأجنبي الجديد اليابان إلى دولة تحكمها الديمقراطية اللبرالية، واعتمد على النظام البريطاني لحكومة برلمانية، أي أن تختار الحكومة من أعضاء الحزب الفائز في الانتخابات وحلفائه. ووافق الجنرال ماك أرثر أن يكون البرلمان بنظام المجلسين، بدلا عن المجلس الواحد، المقترح من الخبراء الأمريكيين. والجدير بالذكر بأن النظام البريطاني، وحتى تاريخ كتابة هذا المقال ومنذ ستة مائة عام، يقسم البرلمان، لمجلس العموم المنتخب، ومجلس اللوردات المعين من قبل جلالة الملكة بعد التشاور مع رئيس الوزراء.
ولم يتغير أي بند من بنود الدستور منذ عام 1947 حتى الآن. ويعتبر جلالة الإمبراطور في الدستور الجديد رمز الدولة، ووحدة الشعب الياباني، ومن خلاله أيضا يعين رئيس الوزراء الياباني، بعد حصول أعضاء حزبه وحلفاءه على أكثر من نصف مقاعد البرلمان، كما يعين الوزراء ورئيس مجلس القضاء الأعلى، بعد المشاورة مع رئيس الوزراء. ويتكون الدستور من خمسة ألاف كلمة، وبه مائة وثلاث مواد قانونية، مقسمة إلى إحدى عشر بندا. ويؤكد الدستور الياباني بأن quot;الحكومة هي الثقة المقدسة للشعب، وسلطتها تنبع من إرادة الشعب، وتمارس هذه السلطة من خلال ممثلي الشعب، والذين يعملون لخدمة الشعب.quot; كما أن المادة التاسعة هي المادة المشهورة في الدستور الجديد، والتي تمنع اليابان من إعلان حرب على دول أخرى، أو الاحتفاظ بقوة حربية، جوية، أو بحرية، أو برية معتدية.
تلاحظ عزيزي القارئ بأن شعب اليابان حقق معجزته الاقتصادية من خلال دستور وضعه غريم الحرب المنتصر، والذي دمر البلاد بالات الحرب المختلفة. ولم يتفرق الشعب الياباني في نقاشات نظرية حول الدستور المفروض، مع أن الدستور الجديد ألغى دور القيم والتقاليد المعروفة بديانة الشنتو اليابانية. فمنع الدستور الدولة وإداراتها من ممارسة أو تدريس أي مواد دينية. ومع ذلك استمر الشعب الياباني يعمل بتناغم بالرغم من تحديات متعددة: الأرض المحروقة نوويا، الكوارث الطبيعية المتكررة، ندرة الموارد الطبيعية، وقلة الأرض بالنسبة للسكان، والتي لا يمكن الاستفادة إلا 20% منها للسكن والبناء والزراعة، بالإضافة لقيود دستور المحتل، واحتلال أربع جزر في الشمال. فقد كانت قناعة الشعب الياباني بأن الدستور هو وسيلة للعمل والتنمية، ولكنه ليس الهدف الذي كان ممكن أن يفرقهم، ويعطل مسيرة تنميتهم، وتطورهم. كما عملوا ومن خلال المعوقات الدستورية لترسيخ قوميتهم اليابانية، وقيمهم المجتمعية، وأخلاقيات سلوكهم.
ومع أن الدستور الياباني الذي وضعه الحلفاء يعزز أهمية الشخصية الفردية في مادته الثالثة عشر، والتي يمقتها الشعب الياباني، الذي يؤمن بالشخصية المجتمعية العاملة ضمن الفريق الواحد وبعيدة عن الأنانية الشخصية، ومع ذلك استمر جميع المواطنين في بناء مجتمع الفريق الواحد المتكاتف، والذي ورثوه من مجتمعهم الزراعي. وحينما تطورت تكنولوجيتهم وصناعتهم، أغنوها بنفس قيم وأخلاقيات المجتمع الزراعي. ومع أن الشخصية الفردية المقترحة في الدستور الجديد تشجع الأنانية، وحب الغنى، والبذخ، ومع ذلك أصر الشعب الياباني المحافظة على تقاليده وعمل بجد واجتهاد، لخلق دولته الغنية لا بلد الأشخاص الأغنياء، وأبتعد عن فلسفة الأنانية الشخصية، وحلم الغناء الكاذب، وحافظ على تقاليده بكون القناعة كنز لا يفنى، وعمل الجميع لانجاز معجزة اليابان الاقتصادية، من خلال خلق طبقة وسطى مثقفة متعلمة ومدربة.
وباهتمام شعب اليابان بالذكاء العاطفي، نجح أن يلجم عواطف الانتقام ضد المحتل الأجنبي، ويخلق جسور عديدة مع الشعب الأمريكي. ومع الوقت تطورت هذه الجسور إلى ثقة متبادلة، واستطاعت اليابان من خلال هذه الثقة أن تتكيف مع الكثير من الثقافة والإبداع الغربي، ومع الوقت تطورت هذه الثقة واستطاعت اليابان أن تنقل الكثير من التكنولوجية الغربية وتطويرها في اليابان. كما تتملك اليابان جيش من أفضل جيوش العالم تكنولوجيا وانضباطا، وتصرف عليه أكثر من أربعة وأربعين بليون دولار سنويا. فهل تصدق عزيزي القارئ بأن درجة الثقة وصلت لحد أن تسمح الولايات المتحدة ببناء اليابان مفاعلات نووية لتوليد الطاقة النووية في المدن الأمريكية؟ كما طالبت الولايات المتحدة من اليابان خلال الأزمة النووية مع كوريا الشمالية أن تساعدها تكنولوجيا وعسكريا على حماية المدن الأمريكية من التعرض لصواريخ نووية موجهه من شمال كوريا. فهل تلاحظ عزيزي القارئ كيف أستطاع شعب اليابان بالحكمة والذكاء العاطفي أن يحولوا العدو المدمر إلى صديق مصير مشترك. والسؤال الملح لعزيزي القارئ هل سيستفيد quot;ربيع مصرquot; من التجربة اليابانية، ليخرج مما يعانيه من تحديات اقتصادية وطائفية؟ والى لقاء.

سفير مملكة البحرين في اليابان