من مفكرة سفير عربي في اليابان
ناقشنا في الجزء الأول من المقال التساؤلات التالية: ما الذي حول ديمقراطية الخمسينات الغربية برأسماليتها ذي المسئولية الإجتماعية، والتي خلقت مجتمع الطبقة الوسطى المتعلمة والمثقفة والمبدعة والمنتجة، إلى رأسمالية القرن الحادي والعشرين الفائقة والمنفلتة عن الانظمة والقوانين؟ وما الذي أدى لتغير المجتمعات الغربية المتناغمة اجتماعيا إلى مجتعات متناحرة، ومتباينة في الدخل، ومتفارقة في الثراء؟ أليس من الغرابة أن تركض بعض فرق المعارضة لأبواب مؤسسات الغرب تطالب بفرض ديمقراطية الغرب ورأسماليتها الفائقة على مواطني بلادها؟ وهل فعلا ستساعدنا ديمقراطية الغرب في بناء ديمقراطية حقيقة، أم سيستغل سياسيو الغرب من قبل الشركات العملاقة، لتحرير دول الشرق الاوسط من الانظمة والقوانين التي تحمي مصانعهم ووظائف مواطنيهم، لكي تنفتح اسواق المنطقة لغزو المنتجات الغربية، لا رغبة في الديمقراطية، بل حبا في زيادة ربحية شركاتها من خلال سوق حرة منفلتة، تجمع الارباح وتهرب بها، وتدمر مستقبل شباب بلادنا؟ وهل ستنتبه انتفاضات ما سميت quot;بالربيع العربيquot; لهذه المفارقات لتتجنبها؟ وهل فعلا يمكن استيراد الديمقراطية المجتمعية من الخارج، أم يجب أن تبني على أسس مجتمعية ثقافية وتاريخية وروحانية، وبتناغم جميل بين فئات المجتمع المختلفة ومع قياداته؟ وهل أثبتت تجارب الشرق الأوسط منذ منصف القرن العشرين تحقيق الثورات والانقلابات احلام شعوبها أم هناك حاجة لإصلاحات اقتصادية واجتماعية وسياسية وتعليمية وتكنولوجية تدريجية، مدروسة، ومخلصة؟
لقد ناقشت الصحفية الأمريكية الأصل والكندية الجنسية نعومي كلين، هذه التساؤلات في كتابها، مذهب الصدمة والرأسمالية الكارثية. فقد عانى الشعب الأمريكي من مأساة أزمة عام 1929 الاقتصادية، فانتشرت نظريات الاقتصادي البريطاني جون مينارد كينس، لتبدأ دول الغرب في بناء رأسمالية ديمقراطية، وفرت التأمينات الاجتماعية في الولايات المتحدة، والرعاية الصحية الحكومية في كندا، والرعاية الاجتماعية في بريطانيا، وأنظمة حماية العمال في فرنسا وألمانيا. كما برزت في هذه الفترة حركات التنمية والقومية في دول العالم الثالث، لتدعم الصناعة المحلية ولتنادي بتأميم شركات النفط والمعادن وتوفير الأراضي الزراعية للفلاحين، لكي تحقق التنمية الاجتماعية والاقتصادية لبلادها. وتمكنت هذه الحركة، في الخمسينيات، تحقيق نجاحات بارزة في أمريكا الجنوبية، وخاصة في شيلي والأرجنتين وأرغواي والبرازيل، بفضل قيادة الاقتصادي راول بريبش، الذي درب فريق من الاقتصاديين في النظرية التنموية، وأرسلهم كمستشاريين في مختلف دول العالم الثالث. وقد طبقت نظرياته بنجاح في بعض دول أمريكا اللاتينية، فمثلا قام الرئيس جوان بيرون في الأرجنتين، بصرف أموال طائلة لتطوير البنية التحتية ودعم الصناعة الوطنية الخاصة بصناعة السيارات والأجهزة المنزلية، ورفع نسب الضرائب على المنتجات الأجنبية. كما تطورت اتحادات العمال لتطالب بأجور مرتفعة للطبقة الوسطى، لتقل الفجوة بين الطبقة العاملة والثرية.
كما ان في الخمسينيات ارتفعت نسبة الطبقة الوسطى في الأرجنتين لأعلى النسب في العالم، وزادت نسبة التعليم في الارغواي إلي 95%، كما وفرت الرعاية الصحية المجانية لجميع مواطنيها. فقد نجح التنمويون في تنفيذ إستراتيجياتهم، لتصبح دولهم نموذج لدول العالم الثالث، وذلك بتنفيذ جاد لسياسات عملية فاعلة وذكية. وقد أدت هذه النجاحات الاقتصادية في العالم الثالث لسوداوية مظلمة بين الشركات الغربية الخاصة العملاقة، وخاصة في مقر علماء اقتصادهم بقسم الاقتصاد بجامعة شيكاغو، وبرئاسة البروفيسور ملتون فريدمان. فتحركت هذه الشركات العملاقة لمحاربة التوجه التنموي الجديد في العالم، وحاولت الاستفادة من نظريات فريدمان وكميرون لضمان مصالحها، فعملت بجدية مستميتة لتغير الرأسمالية الديمقراطية للولايات المتحدة لرأسمالية متوحشة فائقة.
لقد أدت الثورة الكنيسية البريطانية، ضد السوق الحرة المنفلتة، لخسارة الشركات العملاقة الغربية للكثير من أرباحها. وقد ترافقت هذه الثورة بتطور تكنولوجية الاتصالات والمواصلات، التي فتحت أبواب المنافسة في سوق العولمة بخفض أجور العمالة ورخص أسعار المنتجات. وقد وعت هذه الشركات للحاجة لثورة مضادة، لإرجاع رأسمالية السوق الحرة المنفلتة. ولم تستطيع مؤسسات الوول ستريت ان تتصدر هذه الثورة المضادة مباشرة، فاحتاجت لصديق قريب لفريدمان، وهو ولتر ويرستون، رئيس الستي بنك، لكي يبدأ نقاشات ضرورة رجوع السوق الحرة من جديد. ومن هنا بدأت جامعة شيكاغو بزعامة البروفيسور ملتون فريدمان بثورتها المضادة، وبدعم مالي كبير من الشركات الخاصة الغربية، لتلعب دورها الخفي في مصلحة هذه الشركات، وتحت مظلة الحوارات الأكاديمية والأبحاث الاقتصادية، ومن خلال جيوش من اقتصاديها المخلصين في جميع بقاع العالم.
فبدأت الخطوة الأولى لهذا الحوار، باصدار فريمان كتابه، الرأسمالية والحرية، ليشرح فيه انحراف الرأسمالية عن مسارها، والحاجة لثورة إصلاحية مضادة. وقد تحولت نقاشات هذا الكتاب لقوانين السوق الحرة الأمريكية الجديدة، وأصبح جدول عمل اقتصادي لحركة المحافظين الجدد. وقد طالب فريدمان من الحكومة إلغاء جميع القوانين التي تعيق جني الأرباح في الشركات، وببيع جميع الاستثمارات والأصول الحكومية على الشركات الخاصة. كما نصح بوقف الدعم المالي لجميع البرامج الاجتماعية، ووقف فرض الضرائب على الشركات الخاصة، وفتح جميع أسواق العالم للشركات الغربية، ومنع حماية الصناعات المحلية، وترك أسعار المنتجات وأجور العمالة لمنافسة السوق الحرة. كما طالب بخصخصة الرعاية الصحية والبريد والتعليم وتامين التقاعد، وحتى الحدائق العامة.
وقد نشطت الشركات الخاصة العملاقة لتنفيذ أجندتها السياسية. فقامت بتمويل الدعايات الانتخابية للدفع بنوابها للسيطرة على الحكومة والكونجرس، وتعاونت مع المخابرات للقيام بانقلابات في دول العالم الثالث. وقد كان من الصعب في فترة الخمسينيات تحقيق طموحات هذه الشركات، التي اعتمد ثرائها في السابق على ثروات المستعمرات، وحتى مع وجود الجمهوري، دويت أيزنهور، في البيت الأبيض، والذي كان ينتظر الدعم من الشركات الخاصة للفوز بالانتخابات. وقد لعبت جامعة شيكاجو، برئاسة فريدمان، دورا رئيسيا في هذه الانتخابات، والتي انتهت بفوز ايزنهور بالرئاسة في عام 1953. وقد رأس الحكومة الإيرانية في تلك الفترة الدكتور محمد مصدق، الذي أمم شركة النفط الإيرانية، وكان أشمد سوكارنو، رئيسا لاندونيسيا، والذي حاول توحيد دول العالم الثالث كقوة موازية للغرب. وقد دفعت الشركات الخاصة العملاقة بوزارة الخارجية الأمريكية لاعتبار الحكومات التنموية في العالم الثالث من ضمن دول الحرب الباردة، وحذرتها من خطورة القومية التنموية، التي اعتبرتها بداية الطريق لشمولية شيوعية، فأصرت على ضرورة القضاء عليها.
وقد نجحت هذه الشركات العملاقة، في عام 1953، بالدفع بالرئيس الأمريكي دويت أيزنهور لاختيار أثنين من محاميها المخلصين، وهما جون فوستر دالاس، كوزير للخارجية، وأخوه، ألين دالاس، كرئيسا للمخابرات المركزية. وقد نجحا الأخوان دالاس لتخطيط انقلاب ضد الرئيس محمد مصدق في إيران، كما تخلصوا من حكومة الرئيس كوزمن في غوتيمالا، لمنعه من تطوير اقتصاد رأسمالي تنموي. وتعاون البروفيسور، تيودور شولتز، رئيس قسم الاقتصاد بجامعة شيكاغو، والبيون باترسون، مدير المعونات الأمريكية، مع المخابرات، لوضع برنامج أكاديمي لتطوير اقتصاديات العالم الثالث، باستخدام رأسمالية فريدمان وصدمة كميرون. فوفرت الحكومة الأمريكية منح لطلاب من شيلي لدراسة، رأسمالية فريدمان النقية، بجامعة شيكاغو، وأرسلت شولتز وزملائه للجامعة الكاثوليكية بشيلي، ليبدأ في الفترة من عام 1957 وحتى عام 1970، مشروع فريدمان لمحاربة الاقتصاديين التنمويين.
وبالرغم من هذه المخططات، استمر الحوار، في بداية السبعينيات، عن كيفية تهيئة النظرية التنموية في العالم الثالث للمرحلة القادمة، بين التأميم وإصلاح الأراضي وزيادة الرواتب ومطالبة الشركات الأجنبية بإبقاء جزء من أرباحها في البلاد، والعمل على التعاون الاقتصادي بين دول أمريكا اللاتينية، بهدف تطوير مجموعة اقتصادية منافسة للغرب. وتحركت الجماهير في البرازيل في عام 1962 برئاسة جو غولارت لتوزيع الأراضي، وزيادة الرواتب، ودفع الشركات الأجنبية لاستثمار نسبة من أرباحها في البرازيل والأرجنتين، وحاولت الحكومة العسكرية محاربة هذه المطالب بمنع حزب جوان بيرون خوض الانتخابات، ليؤدي ذلك لظهور جيل جديد من أنصار بيرون مستعد لاستلام الحكم بالعنف من العسكر. كما أدت المعركة الأيديولوجية في شلي لهزيمة منكرة لتجربة جامعة شيكاغو، حيث نادت الأحزاب الثلاث الكبيرة في الانتخابات لتأميم مناجم النحاس.
وفي السبعينيات، أنصدم الرئيس نيكسون بفوز الطبيب سلفادور أللندي برئاسة الحكومة في شيلي. فأكد لبروفيسور فريدمان بأنه إذا لم ينجح في تطبيق نظرياته quot;بالديمقراطيةquot;، فسيفرضها بدكتاتورية العسكر. فبدأت الشركات الأمريكية حرب شرسة على حكومة الليندي، بالتعاون مع الحكومة في واشنطون، لتحطيم الاقتصاد الشيلي ووقف التأميم. ولم تستطع الدولارات الأمريكية التخلص من أللندي، بل زادت شعبيته في عام 1973، ليصبح الوضع أكثر تعقيدا، وليدرس عساكر المعارضة المتحالفة مع فريدمان تجارب الانقلابات في البرازيل واندونيسيا. فاجتمعت المعارضة، في عام 1971، لوضع إستراتيجية لانقلاب ضد حكومة أللندي. كما طالبوا من طلبة فريدمان المخلصين، لوضع برنامج اقتصادي للبلاد. وقد علقت الكاتبة نعومي كلين على ذلك بقولها: quot;وترافق انقلاب شيلي بثلاثة أنواع متميزة من الصدمات، نموذج يمكن نسخه في الدول المجاورة، وليبرز من جديد بعد ثلاثة عقود في العراق. فصدمة الانقلاب رافقتها صدمة كميرون لمحو ذهن الشعب الشيلي بالصدمة الكهربائية والمخدرات والعزل في السجون، وتبعتها صدمة فريدمان للرأسمالية النقية، ليؤدي ذلك لظهور أول دولة لنظرية فريدمان.quot;
ففي الحادي عشر من سبتمبر عام 1973، قام الجنرال اوغسطه بنوشه بانقلاب عسكري، استخدمت فيه الدبابات والطائرات الحربية النفاثة، لضرب القصر الرئاسي وقتل الرئيس أللندي وسحق جميع أعوانه. كما ملئت السجون بالمواطنين، لعلاج الشعب بصدمات تعذيب البروفيسور كميرون، لغسل عقولهم بالخوف والرعب. ولن نحتاج لوصف الرعب الذي انتشر في البلاد ليغسل فريدمان المجتمع من الاقتصاديات التنموية ليحقق أحلامه في رأسماليته النقية، وذلك بفتح البلاد للاستثمارات الأجنبية، لكي تشتري الشركات الخاصة العملاقة أصول البلاد بأسعار بخسة، ولكي تتحرر التجارة من الأنظمة والقوانين. فتخلصت هذه الشركات من الصناعات المحلية، وتخلصت من الملايين من القوى العاملة، وألغت الحد الأدنى للأجور، وغلقت مؤسسات الصحافة المعارضة، وطردت الألوف من أساتذة الجامعات من وظائفهم. وقد تكررت نفس هذه التجربة المأساوية في باقي دول أمريكا اللاتينية، لتفتقر شعوبها، فتجوع الأطفال وتنتشر الأمراض، وتزداد البطالة والبغاء، وتتراكم الديون الخارجية، rdquo;ولتمتلئ بطون أثرياء نيويورك ولندن.quot;
وقد استخدمت نظرية الصدمة مارجريت تشر، بخلق أزمة الفوكلاند، لكي تمرر رأسماليتها النقية. كما استغل الرئيس ريجن أزمة إضرابات المراقبة الجوية، ليضعف الاتحادات العمالية، ويمرر خطته الاقتصادية التي خفضت الأجور وزادت من هوة الثراء، وأدت لتلاعب الشركات الخاصة في أسعار الأدوية وتكاليف الرعاية الصحية، مما أدى لفقد ستة وأربعين مليون أمريكي تأمينهم الصحي، وليعيش ستة وثلاثين مليون أمريكي تحت سقف الفقر. وقد دفع اليمين الصهيوني والمحافظين الجدد، وبالتعاون مع المؤسسة الصناعية العسكرية الإسرائيلية، الرئيس بوش الابن لاستخدام صدمة كرومان على العراق، كمحاولة لغسل عقل شعبه من وطنيته، وللقضاء على موارده البشرية، وليفرض عليه رأسمالية فريدمان النقية، وذلك بتدمير البنية التحتية في البلاد والتخلص من الصناعات الوطنية وفتح الأبواب للخصخصة، لكي تشتري الشركات الخاصة العملاقة اقتصاديات العراق بسعر بخس. ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان