-1-
ربما، ما لا يعرفه الكثير عن الإمام ابن تيمية انه كان يظهر احتراما كبيرا لشيوخ التصوف من أمثال الفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم والسري السقطي والجنيد والشيخ عبد القادر الكيلاني وعدي بن مسافر.. هذا الإحترام الواضح في كتابات بن تيمية خصوصا منها تلك التي تتحدث عن التربية في موسوعته الشهيرة باسم laquo;الفتاوىraquo; أو رسالته المتميزة laquo;الصوفية والفقراءraquo; مثلا، تجعل الناظر يقف حائرا أمام السيل الجارف لنقد التصوف والصوفية من طرف بعض أنصار التيار السلفي الذين يعتقدون أنهم الورثة الشرعيون للإمام!

والحال أن الإستشهاد برأي ابن تيمية في المتصوفة اليوم فيه الكثير من المغالطات، لأن الرجل أصدرها طبقا لظروف سياسية واجتماعية معروفة أيام الغزو التتاري لبلاد المسلمين، وكان يعتبر أن المتصوفة بدروشتهم وتوسلهم بالأولياء ليست مجاهدة حقة لهؤلاء الغزاة. مع العلم أن هذا يبقى إجتهاد فقهي في منظومة إجتهادات أخرى تخالف الإمام ابن تيمية الرأي بخصوص الجهاد والمجاهدة (وهذا موضوع سنعود إليه لا حقا)، أما الحكم على المتصوفة بالبدعة والدجل فلا شك أن تلك المرحلة من التصوف كان يغيب فيها الشيخ المربي، بل ففي كل مرحلة عندم يغيب فيها الشيخ لمربي تظهرر مثل تلك الإنحرافات، وهذه المرحلة يسميها
الدارسون بمرحلة laquo;التبركraquo; لا يسع المنتسبين إلى طريقة من الطرق الصوفية التبركية الوفاء بالشروط التالية:
- المحافظة على تطبيق التوجيهات التربوية التي تركها فيهم المربي.
- نقل التوجيهات نقــل الرواية والمقال لا نقل المعاينة والتجربة إلى غيرهم ممن رغب في الإلتحاق بهم.
- عدم ادعاء الإستحقاق بأن يكون سلوكهم قدوة للغير في تحصيل التربية الروحية.
وفي هذه المرحة بالذات، قد تتعرض الطريقة إلى مظاهر من التبدع تزداد حدة كلما طال الأمد بينها وبين الأستاذ المربي، لأنه هو وحده القادر على تقويم سلوك المريدين ورعاية نهج السلف فيهم كما يقول د. طه عبد الرحمان في مؤلفه العمل الديني وتجديد العقل، ص 92.

ويقول د. يوسف زيدان، أن ابن تيمية لو عاش فى مرحلة من تلك التى حمل فيها الصوفية لواء المقاومة للمحتل الأجنبى، مثلما جرى فى وقائع كثيرة (المهدى فى السودان ضد الإنجليز، السيد ماء العينين فى المغرب ضد الفرنسيين، عمر المختار فى ليبيا ضد الإيطاليين، الأمير عبد القادر الجزائرى ضد المستعمرين) لكان ابن تيمية قد انخرط فى سلك هؤلاء، ولم يقدح فى الصوفية.
هكذا نفهم أن إصرار الكثير من التيار السلفي على نعث المتصوفة بالقبورية والتصوف بالبدعة فيه إجحاف كبير، ومغالطة لجمهور الناس، ومحاولة قتل كل ما هو جميل وروحاني في التدين.

-2-
والقليل يعرف أن جورج مقدسي ذكر انتساب ابن تيمية للطريقة القادرية استند فيه على سلسلة شيوخ ابن تيمية التي تبدأ بموفق الدين بن قدامة تلميذ الشيخ عبد القادر المباشر وخريج المدرسة القادرية ببغداد..!
فضلا عن الإحترام والتقدير اللذين يبثهما ابن تيمية في كتاباته للشيخ عبد القادر، فهو يشير إليه بلقب laquo;قطب العارفينraquo; وهوlaquo; شيخنا أبو محمد قدس الله روحه raquo;..
كما أن ابن تيمية كثير الاستشهاد به كنموذج يقتدى به في الإعتقاد والسلوك؛ والشاهد ما أفرده في مئات الصفحات لشرح كتاب الشيخ عبد القادر quot; فتوح الغيبquot; في المجلد العاشر من الفتاوى والمسمى 'كتاب علم السلوك'..
وهناك بعض الإشارات في كتب ابن تيمية تدل حسب الدارسين على أنه كانت لأسرته صلة روحية بالشيخ عبد القادر، فمثلا يذكر في كتاب 'علم السلوك ' ما يلي: حدثني أبي عن محيي الدين النحاس وأظنني سمعتها منه أنه رأى الشيخ عبد القادر في منامه وهو يقول إخبارا عن الحق تعالى : من جاءنا تلقيناه...raquo;
تلك أمور قد لا يعرفها أصحاب ' ثقافة الأذن'.
وهذا فقط لمع!

-3-
والصوفية عند ابن تيمية مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب. ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه عاص لربه.

وأما انتساب الطائفة إلى شيخ معين يقول ابن تيمية في الفتاوى دائما : 'فلا ريب أن الناس يحتاجون من يتلقون عنه الإيمان والقرآن كما تلقى الصحابة ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وتلقاه عنهم التابعون وبذلك يحصل اتباع السابقين الأولين بإحسان. فكما أن المرء له من يعلمه القرآن والنحو فكذلك له من يعلمه الدين الباطن والظاهر' ج11 ص510.
وأسرار الحق بينه وبين أوليائه، وأكثر الناس لا يعلمون.. كما قال ابن تيمية.

أستاذ باحث في الفلسفة والتصوف
[email protected]