بعد ثورة شعبية مصرية في 30 يونيو و 26 يوليو 2013، لا نبالغ بالقول أن العالم لم يشهد لها مثيلاً، من حيث حجم الحشود، والطابع السلمي الحضاري، فائق الروعة. يأتي المصريون إلى مرحلة كتابة أو تعديل دستورهم. أو بالأحرى تعديل دستور جماعة الإخوان والسلفيين والجهاديين، والذي استطاعوا فرضه لبرهة وجيزة من التاريخ المصري. حبذا لو أمكن حذفها من ذاكرة الشعب المصري، ومن مضابط التاريخ. وإن كان هذا غير وارد بالتأكيد، ولا هو مرغوب فيه حقاً.
يختلف الدستور عن أي وثيقة سياسية أو قانونية أخرى. فإذا كانت النظم السياسية والقوانين تتسم بهامش اختلاف بين دولة وأخرى وشعب وآخر، وفقاً للتنوعات الثقافية والاقتصادية والجغرافية، هذا رغم التماثلات الحتمية، التي تفرضها عمومية طبيعة العلاقات الإنسانية، ويفرضها العصر ومعاييره العامة. فإن للدساتير صفة شمولية إنسانية بدرجة أكبر من تلك. لذا يجب أن يتسم الدستور في مضمونه أيضاً بالشمولية. وعدم التطرق للتفاصيل، التي تُترك للقوانين، واللوائح المنظمة لمؤسسات الدولة. لتأتي الدساتير في مختلف الدول، تحمل الكثير من التشابه أو حتى التطابق. عبر تركيزها على احتياج الإنسان كإنسان. لا ينبغي أيضاً أن يكون الدستور معبراً عن فئات المجتمع ومكوناته، كما نسمع الآن مما يتردد على ألسنة الجميع، بوهم أنهم هكذا يوفرون أسس العدالة والمواطنة الحقة. فالدستور ينبغي فقط يعبر عن الإنسان الفرد الحر. وفق المعايير العالمية الحديثة. وفي تلك الحدود لا فرق بين الإنسان الفيتنامي والأمريكي والأسباني والمصري. والدستور الذي يتحدث عن أقلية وأغلبية. وعن رجل وامرأة، وعمال وفلاحين وفئات، وعن جنس أبيض وجنس أسود، أو عن نوبيين وبدو وأهل حضر، وعن مؤمن وكافر، أو مؤمن بأديان نسميها سماوية، ومؤمن بأديان أخرى نعتبرها بشرية وأقل منزلة، أو مهدرة المنزلة والكرامة. يكون الدستور هكذا دستوراً يكرس التخلف، ما لم يركز فقط وحصرياً على الإنسان المجرد، دون صفات وتصنيفات. وبصورة عامة أيضاً، الدستور لا ينبغي له أن يعبر عما هو كائن في واقع الحال، بل التعبير عما ينبغي أن يكون في المستقبل القريب والبعيد. لا يعبر عما نحن عليه الآن من علاقات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافة سائدة، ولكن عما نريده لأنفسنا وأولادنا وأحفادنا. ومن هنا يأتي الطابع العام والكلي لوثيقة الدستور.
إذا انتقلنا لمحتوى الدستور المصري، وإشكالياته محل النقاش والجدل. واتذي يحتل فيها حديث quot;الهويةquot;، موقعاً نموذجياً لتجارة المتاجرين ومزايدة المزايدين. نجد أن الأمة المصرية هي quot;واحد صحيحquot;. وليست كسراً أو جزءاً من أي أمة. لا هي جزء من أمة عربية من المحيط للخليج، كما تردد أناشيد العروبة. ولا هي جزء من أمة إسلامية وهمية، تمتد لسائر أركان الكرة الأرضية، جيراننا العرب قوم فضلاء، ونحن وهم كجيران نحتاج لبعضنا البعض. لكن هذا لا يعني أن أنتسب لغير أبي وأمي، فأقبل نسبتي لآباء جيراني. القوميون العرب في الشام هروباً من الخلافة الإسلامية، ابتكروا دعوى العروبة، وعندما وجد عبد الناصر أن مصر أصغر من قدراته في الزعامة، فرض العروبة علينا، علَّه يصير إمبراطور العرب، ومع جزيل احترامنا للعرب كجنس أو حتى ثقافة، ولجيرتنا البيضاء أو السوداء لهم، فإن المصريين ليسوا عرباً، ولن نغير اسم أبينا، من أجل إقامة علاقات حسنة لابد منها مع جيراننا، أياً كانت جنسيتهم، ولن نغير انتماءنا لأجدادنا من أجل طموحات وشطحات وهلوسات. إذا كانت العروبة شرفاً، فأنا لا أدعيه. وإن كانت عاراً، فأنا بريء منه.
قد تتحالف الأمة المصرية مع غيرها، نعم. لكن هذا ينبغي أن يتم وفقاً للمصالح المشتركة والمتغيرة. لا وفق تهويمات وادعاءات، وأحلام إمبراطورية مصدرها الاحتقان الفكري والسيكولوجي. لذا فالمادة الأولى والثانية من الدستور المصري المتعلقتان بالهوية، تحتاجان لتغيير جذري، وربما لدمجهما في مادة واحدة، تنص على النظام الجمهوري، ووطنية الدولة ولغتها الرسمية، ولا أكثر. لتأتي صيغتها على هذه الصورة: quot;جمهورية مصر دولة ديموقراطية، تقوم على أساس المواطنة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومواثيق حقوق الإنسان العالمية مصادر رئيسية ملزمة للتشريعquot;.
الدستور الذي ينتهك أو يتجاهل الحقوق الإنسانية الأساسية والطبيعية، يُسقط نفسه بنفسه. وغالباً ما تتجاوزه حتميات العلاقات الواقعية العملية. رغم الإقرار بتأثيره السلبي، وفقدانه لوظيفته كمحددات وعلامات إرشادية للأمة والدولة، انتهاجاً لسير حثيث نحو الحداثة والتطور والتنمية. فحقوقي كإنسان ومواطن وفرد من مجتمع، أستمدها من وجودي الإنساني والوطني والاجتماعي. وليس من طوباوية وسماحة أخلاقية لطغمة أو أغلبية حاكمة. أو سماحة مفترضة لمنظومة فكرية أو دينية. الدساتير ثلاثة أنواع. دستور يجذبك حضارياً للخلف، ودستور تحصيل حاصل، يعكس الوضع الراهن بكل ما فيه، ويربطك به بقيود لا فكاك منها، ودستور يدفعك نحو مستقبل أفضل، باستلهامه لرؤى ومعايير إنسانية عالمية، لم يسبق توطينها واستزراعها بالتربة الوطنية.
تحت راية التوافق يحاولون الآن كتابة الدستور، باشتراك عناصر ممن لا يعترفون بوطن ولا بوطنية، ولا يعترفون بديموقراطية ودولة حديثة، وبالأولى لا يعترفون بدستور وضعي، يعدونه دستور الطاغوت. هؤلاء الذين يجعلون من أنفسهم مدافعين عن هوية مصر، والحقيقة أن مصر وهويتها بريئة منهم ومن إجرامهم وجهالاتهم. بحيث يحق لنا القول: quot;أيها التوافق كم من الجرائم ترتكب باسمك!!quot;، وكأننا يجب هكذا أن نعدل قانون العقوبات المصري، لينص على الحكم في الجرائم الإرهابية بعقوبة 25 سنة توافق، بدلاً من 25 سنة سجن. حتى لا نُعد إقصائيون، في نظر المتشدقين بالشعارات، دون وعي سياسي وإنساني حقيقي. والآن مع التشكيل الحالي للجنة الخمسين لكتابة الدستور، والذي برأ من وصمة التشكيل السابق، الذي قام على غلبة عددية سياسية، لجماعات وعصابات تستتر بالدين، السؤال هو: هل سيستطيع فردان أو أكثر من ممثلي تيار الإسلام السياسي، إرهاب بقية أعضاء اللجنة، متسلحين بخنجر مبدأ التوافق هذا، فيأتي الدستور الجديد أو المعدل، يحمل نفس تشوهات ما خرجت الجماهير المصرية عن بكرة أبيها ثورة عليه؟
أليس عجيباً أن يكون للجهالة والظلامية مندوبين في لجنة الدستور؟!!. . إذا كانت مهنة الطب تنحصر في quot;إقصاء الميكروباتquot; من جسد المريض، بل وتمتد أحياناً إلى quot;إقصاء أجزاء من الجسدquot; بالبتر، فإن الدستور هو أشبه بروشتة علاج، لا ينبغي أن يشارك في كتابتها المرضى، كما أننا إذا كنا نهاب اللون الأبيض، الذي هو المعاصرة والحداثة والحرية، ونجزع من اللون الأسود، الذي هو الغرق في غياهب التخلف والماضوية، فإن مصيرنا هو اللون الرمادي الأخرس البليد، وهي ذات الحالة التي سادت طوال عصر مبارك، وترتب عليها ما عايناه من فساد مالي وسياسي وإداري، علاوة على استفحال وباء التنظيمات والأفكار الدينية المهووسة. الدستور التوافقي إذن شلل في المكان والزمان، أو انبطاح على أوحال مستنقع الواقع. كما أن من يكتب دستوراً للمستقبل، لا ينبغي أن يكون ممن ينتمون بكليتهم للماضي. ولا أظن أن الذين ارتدوا بأفكارهم وبسيماهم وأزيائهم إلى البدائية الوحشية، ينبغي أن يكون لهم مكان على مائدة كتابة دستور دولة حديثة. نريد أن نعوض به ما فاتنا. ونلج القرن الواحد والعشرين، الذي بدأ بمعالمه ومتغيراته في غفلة منا. مهما كانت دعوات أو صيحات عدم جواز الإقصاء. وما شابه من أصنام الشعارات المعلبة. المفارقة لواقع الحال، ولطبيعة ما نحن بصدده. وهو كتابة دستور وفق المعايير الإنسانية والعالمية لتدوين الدساتير.
التعليقات