كاتب هذه السطور ممن يعتقدون بمقولة quot;موت الأيديولوجياquot;، بمعنى أن المرحلة الحالية من الحضارة الإنسانية بتعقدها وتشعب وتداخل عناصرها لم تعد تتوافق مع تطبيق منظومة فكرية محددة، لتكون صالحة للسير على هداها وصولاً إلى الأهداف الإنسانية الحضارية التي قد تدعي هذه المنظومة أو الأيدولوجيا أنها quot;الوسيلةquot; أو quot;الطريقquot; لتحقيقها على أرض الواقع. . ما عرفناه قبلاً من الالتزام quot;الأيديولوجيquot; أو quot;الدوجماطيقيquot; بمنظومة ما أو بنص مقدس، أو حتى بمجموعة من المبادئ التي قد يبدو بعضها إنسانياً بل ومحورياً بالنسبة للمرحلة الراهنة من الحضارة الإنسانية، هذه كلها لم تعد لها ذات الصرامة في التطبيق في حضارة بالغة التعقيد، وفي ظروف بالغة التنوع، لكنها في أحسن الأحوال قد صارت شظايا مبادئ ورؤى وتوجهات صالحة للأخذ منها وبها وفقاً لمقتضيات الظروف، وصولاً لتحقيق الأهداف التي وضعها الفرد أو الشعوب لنفسها، فما نعنيه هنا ليس نفياً لمقولات أو مبادئ هي بالفعل مفيدة أو جوهرية لحضارتنا، لكننا نتحدث عن التعامل معها وهي في حالة سيولة تتيح لنا الأخذ بما نشاء وقتما نشاء وفقاً للحالة العينية التي أمامنا، فما قد يتصوره البعض بصورة عامة أن الأيديولجيا الاشتراكية قد سقطت، وأن الرأسمالية قد انتصرت، وقال قائل أن هذا quot;نهاية التاريخquot;، هذا بالتأكيد غير حقيقي على ذلك النحو من الفهم، فما نراه حولنا هنا وهناك من تطبيقات هو خليط بين الرأسمالية والاشتراكية، وإن كانت الرؤى الليبرالية هي السائدة، لكنها وحدها وبصورتها الخام الأصلية لو تم تطبيقها الآن لن تكون أقل فشلاً أو حماقة من تلك المحاولات البائدة للتطبيق الماركسي.
- آخر تحديث :
في ظل معيارية الواقع
نريد أن نخلص من هذا إلى التأكيد على أن الأفكار والمبادئ مهما كان تقييمنا الإيجابي لها، ومهما كانت درجة الإجماع عليها، ليست هي الغاية في ذاتها، وإنما النتائج العملية التي تترتب على تطبيقها، وأننا في طريقنا لتحقيق غاياتنا لا ينبغي لنا الوقوع في شرك عبادة أصنام مقدسة نسميها quot;مبادئquot;، فلا نحاول الالتفات لما سيسفر تطبيقنا لها في ظرف معين من نتائج قد تكون مخالفة أو مضادة لأهدافنا الأساسية المرجوة.
الآن فلنأت إلى مثالنا العملي الذي هو الهدف من كتابة هذه السطور، الحالة السياسية المصرية منذ 25 يناير 2011 وحتى الآن، والاختلاف القائم محلياً ودولياً حول تقييم ما انتهت إليه تلك الحالة، إن كانت انقلاباً عسكرياً على الشرعية والديموقراطية، أم كانت حالة ثورة شعبية قامت في 30 يونيو 2013، لإصلاح ما فسد من مسيرة ثورة 25 يناير، ولإعادتها إلى مسارها الصحيح تحقيقاً لأهداف الثورة في الرفاهية والحرية والكرامة الإنسانية.
سوف نبدأ برؤية أو بتقييم المسيرة المصرية على ضوء المعروف المتفق عليه من المبادئ والمفاهيم السياسية الشائعة، وذلك في شقها الأول من 25 يناير 2011 حتى ما قبل 30 يونيو 2013، ثم شقها الثاني ما بعد 30 يونيو:
في الشق الأول ثورة شعبية خرجت فيها الجماهير لتطيح بنظام استبدادي فاسد دام ثلاثة أو ستة عقود (يعتمد على رؤية الرائي)، وسلكت الثورة مسار الديموقراطية عبر استخدامها لآلية صناديق الاقتراع، مع غض النظر عن التحقق من مدى مطابقة الساحة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية المصرية للشروط اللازم توافرها لتطبيق هذه الآلية، فكان أن تم انتخاب مجلسي البرلمان، واختيار رئيس جمهورية بالانتخاب الحر المباشر، وتشكيل وزارة بواسطة القوى الفائزة في الانتخابات، وإصدار دستور جديد.
في الشق الثاني خرجت حشود جماهيرية غير مسبوقة من حيث العدد في مصر وربما في العالم أجمع لترفض نتائج ما تحقق في الشق الأول من الثورة المصرية، ما استدعى القوات المسلحة إلى القيام بانقلاب عسكري أطاح بالرئيس المنتخب وبمجلس الشورى ووزارة الأغلبية، وجمد العمل بالدستور الذي وافق عليه الشعب المصري في انتخابات حرة، وعين رئيس المحكمة الدستورية العليا رئيساً مؤقتاً للجمهورية، وشكل وزارة جديدة.
العرض السابق والمؤسس على هدى عناوين quot;مبادئ الديموقراطيةquot;، وعدم شرعية quot;الانقلابات العسكريةquot;، وتقديس نتائج quot;صناديق الاقتراعquot;، يسوقنا آلياً إلى تثمين الشق الأول من مسيرة الثورة المصرية، وإلى إدانة وشجب المسيرة الثانية، وهذا بالضبط ما فعله الكثيرون بداخل مصر وخارجها، ولما لا يفعلون وهم كرام أصحاب مبادئ ومثل عليا لا يتزحزحون عنها قيد أنملة؟!!
لكن إذا كنا قد اتفقنا على أن المفاهيم السياسية المثمنة والمبادئ ليست أكثر من وسائل نعتقد في كفايتها وكفاءتها في تحقيق غاياتنا وأهدافنا، فإن لنا الآن أن نرى ذات شقي المسيرة المصرية على ضوء ما أسفرت عنه النتائج التطبيقية في المرحلتين:
أسفرت المسيرة الديموقراطية عن انتخاب غرفتي برلمان من شخصيات لا تفتقر فقط لمقومات النيابة عن الشعب، ولكن يفتقر كثير منها لمقومات الإنسان الطبيعي السوي، ما كان واضحاً لكل من شاهد على شاشات التليفزيون سلوك وكلمات ورؤى وأشكال الأعضاء الموقرين في المجالس المنتخبة، كما أتى إلى القصر الجمهوري شخصية لم تجلب لمصر سوى السخرية منها والإشفاق عليها.
أـسفرت أيضاً عن وزارة تأكد خلال تلك الفترة عجزها التام عن التعامل مع القضايا الملحة للبلاد والعباد.
أسفرت عن دستور استأثرت بوضعه فئة واحدة لا تمثل إلا نفسها وميولها الرجعية المتخلفة، دستور يمهد الطريق لدولة دينية وسلطة استبداية بأسوأ مما عرفته مصر طوال تاريخها الحديث.
أسفرت عن إطلاق سراح آلاف المسجونين في قضايا الإرهاب، واستقدام آلاف غيرهم من مآوي الإرهاب في العالم، ووصل بعض هؤلاء إلى كراسي السلطة أو بالقرب منها، ووصل آخرون إلى سيناء ليحيلونها إلى وكر لتنظيمات إرهابية ولتنظيم القاعدة، ويبدأون في خطف وقتل جنود الجيش المصري.
قامت السلطة المنتخبة ديموقراطياً بتهديد المؤسسة القضائية والعمل على هدمها، علاوة على محاولات اختراق وهدم وأخونة سائر مؤسسات الدولة، وفي مقدمتها وزارة الداخلية والجيش والإعلام والتعليم، ثم أيضاً مؤسسة الأزهر الشريف، كما قامت بتقسيم الشعب إلى مؤمنين هم الإخوان والسلفيين، وإلى كفار هم باقي الشعب المصري بمن فيهم من أعطوا أصواتهم للتيار الديني في صناديق الاقتراع.
وأخيراً وليس الآخر تدهور الاقتصاد المصري وتصدعت مقوماته كالسياحة والصناعة وغيرها، ما أدى لأزمات الوقود والكهرباء وارتفاعات جنونية في الأسعار وتدهور الجنيه المصري. . . إلخ.
هنا نأتي للشق الثاني من الثورة، والذي لم يتح الوقت لرصد إنجازات عملية له حتى الآن، وإن كان قد نجح بهدوء وسلمية في تنحية كل من وصل للسلطة دون امتلاك جدارتها، وبث الطمأنينة في نفوس الملايين التي خرجت لتنقذ بلادها من ضياع محقق قد تحقق بالفعل جزء كبير منه، ثم تم تشكيل وزراة (لا تعتمد على أغلبية برلمانية نعم)، لكن من يستعرض أسماء أعضائها لابد وسيقف احتراماً أمام أسماء ومؤهلات علمية وخبرات تجعلها جديرة بقيادة دولة مثل الدولة المصرية في طريق التقدم والحداثة، ذلك بعد النجاح في تعويم سفينتها التي كانت قد أوشكت على الغرق النهائي.
الآن بعد أن أعطينا لأصحاب quot;معيارية المبادئquot; الصماء العمياء البكماء حق إدانة الشق الثاني من الثورة المصرية والتحيز والتثمين للشق الأول، فإننا نحن من نعتمد quot;معيارية الواقعquot;، فلا تغيب عن أعيننا أهدافنا في حياة أفضل، وفي الحداثة والحرية لأبناء شعبنا وبلادنا، يحق لنا أن نمجد ثورة شعبنا في 30 يونيو، وأن نمجد رجال وقادة قواتنا المسلحة التي تبنت إرادة الشعب، واستجابت لندائه بالنزول لأداء واجبه حماية لأمن مصر واستقرارها.
التعليقات