لم يكن صناع الرأي والمثقفون العرب ليتصوروا أن يمتد التغيير الذي اجتاح العالم العربي قبل ثلاثة أعوام تقريباً، ليدك أبواب الكيان الإسرائيلي، الذي اتهم ومن ورائه الغرب والولايات المتحدة بمحاولة زعزعة الاستقرار في المنطقة، والاستجابة لمخططات أمريكية (بوشية) المنشأ، تجمعت تحت إطار (الفوضى الخلاقة).
فالمطالب المعيشية التي حملتها الحركة الاحتجاجية الإسرائيلية في مواجهة حكومة نتنياهو، التي خرجت بالتزامن مع ثورات الربيع العربي الصيف الماضي، ربما لم ترفع شعار إسقاط الحكومة وتغيير النظام، كما هو الحال في العالم العربي، لكنها رفعت أعلاماً لدول عربية وشعارات مكتوبة بالعربية تنادي بالحرية والديمقراطية، وتطالب بإجراء إصلاحات تخفف من عبء تكاليف المعيشة عن المواطنين.
وبعد الحركة الاحتجاجية الاجتماعية التي نجحت في تلبية بعض مطالبها الاجتماعية والاقتصادية من دون أن تنالها كلها، هاهي quot;إسرائيلquot; تواجه ربيعاً جديداً من نوع آخر، يشابه إلى حد بعيد مطالب الأقليات والإثنيات في العالم العربي، وقد يكون مقدمة لاندلاع مثيلها فيه، وينبني عليه كيفية التعامل مع مثل هذه الاحتجاجات الإثنية والعرقية.
آلاف المهاجرين الأفارقة نظموا احتجاجات متواصلة أمام سفارات دول غربية في تل ابيب للمطالبة باطلاق سراح مواطنين من بلادهم تحتجزهم quot;إسرائيلquot; في منشأة في الصحراء بموجب قانون جديد يسمح بالاحتجاز إلى أجل غير مسمى.
المحتجون احتدشوا في متنزه ساحلي مطل على البحر المتوسط على الجانب المقابل للسفارة الأمريكية وأخذوا يرددون quot;لا سجن بعد الانquot;. وشارك المحتجون أيضا في مسيرة إلى سفارات كل من فرنسا وإيطاليا وبريطانيا وكندا وألمانيا ليسلموا رسائل تطلب التأييد الدولي ضد سياسة الاحتجاز التي تطبقها quot;إسرائيلquot; على مهاجرين تقول انهم يسعون للحصول على فرص عمل بشكل غير مشروع.

قبل نحو ثلاثة اسابيع، وافق البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) على القانون الذي يتيح للسلطات احتجاز المهاجرين الذين لا يحملون تأشيرة دخول سارية إلى اجل غير مسمى. وأدان منتقدون القانون قائلين انه ينتهك حقوق الانسان.
وتقول السلطات الإسرائيلية إن نحو 60 ألف مهاجر غالبيتهم من إريتريا والسودان دخلوا إلى quot;إسرائيلquot; عبر حدود مصر التي كان يسهل اختراقها منذ عام 2006. ويقول كثيرون منهم انهم يريدون اللجوء ويبحثون عن ملاذ آمن.
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يعتبر ان وجود كثير من الافارقة يهدد النسيج الاجتماعي اليهودي لإسرائيل. وقال نتنياهو لنواب من حزب ليكود اليميني الذي يتزعمه quot;المظاهرات لن تفيدهم. هؤلاء ليسوا لاجئين لنعاملهم وفقا للقواعد الدولية. انهم متسللون غير شرعيين يسعون للحصول على عمل.quot;
وأدى سياج أقامته إسرائيل على الحدود إلى وقف تدفق المهاجرين الأفارقة القادمين من مصر منذ عام 2012، لكن المهاجرين الذين عبروا بالفعل يمكن إرسالهم إلى ما تصفه الحكومة بسجن مفتوح.
أكثر من عشرة الاف افريقي تظاهروا امام المجلس المحلي لتل ابيب تضامنا مع أكثر من 300 مهاجر تقول جماعات مدافعة عن حقوق الانسان انهم اعتقلوا منذ بدء تنفيذ قانون الاحتجاز الجديد. ويرى ناشطون مدافعون عن حقوق الانسان والمفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة إن عشرات آخرين تلقوا أمر استدعاء للاحتجاز من بينهم رجال معهم زوجاتهم وأطفالهم. ويسمح للمحتجزين بمغادرة مركز الاحتجاز لكن عليهم ان يعودوا اليه ثلاث مرات في اليوم بما في ذلك عند حلول الليل ويمكن ان يحتجزوا إلى اجل غير مسمى انتظارا لترحيلهم أو البت في طلبات لجوئهم.
وزير الداخلية الإسرائيلي جدعون ساعر رفض التصريحات المنددة بالقانون الإسرائيلي الجديد والذي اعتبر عنصرياً من وجهة نظر الأمم المتحدة وجماعات حقوق الإنسان، وقال لراديو الجيش الإسرائيلي إن الغالبية العظمى من المهاجرين أتوا بحثا عن فرص عمل وليس اللجوء. وأضاف quot;لكن إسرائيل ليست وطنهم وسنبذل جهودا لضمان ألا تصبح دولة للمتسللين.quot;
وقال نتنياهو إن إسرائيل ستواصل تشجيع المهاجرين على الرحيل أو ايجاد دول اخرى تقبلهم. وقال إن 2600 مهاجر غادروا في عام 2013 وإن إسرائيل quot;ستنقل المزيد منهم هذا العامquot;.
يبدو قادة (إسرائيل) ونخبها السياسية والفكرية مرتبكين مضطربين، وغير قادرين في الوقت نفسه على اتخاذ موقف واضح وصريح من مجريات الأحداث في المنطقة، التي هزها زلزال الربيع العربي من أقصى المغرب إلى الخليج العربي، وهم نجحوا بداية في استيعاب حركات الاحتجاج الاجتماعي بتلبية مطالب اقتصادية لهم، لكنها اليوم تقف أمام مفترق يتعلق بهوية الدولة ومكوناتها التي ترفض أن يندمج الأفارقة فيها تحت أي ذريعة أو مسمى.
فحتى نواب الكنيست من أصول إثيوبية احتجوا مؤخراً على رفض أحد المستشفيات قبول تبرع أحد النواب من أصول إثيوبيا بدمه لمجرد كونه ذا بشرة سمراء، ما عزز من مخاوف الأقليات الإفريقية ولو كانوا ينتمون إلى الديانة اليهودية، إزاء حقوقهم الوطنية، وجعل بعض المنافحين عن حقوق الإنسان من اليسار الإسرائيلي يحذر من تفاقم هذه المشكلة، وسط مخاوف quot;العقلاءquot; من اليمين الإسرائيلي من تصاعد هذه الموجة، وتأثيرها مستقبلاً على مطالب إسرائيل باعتراف الفلسطينيين بيهودية الدولة في ظل رفض اسرائيل نفسها الاعتراف بحقوق المواطنة لغير البيض من اليهود.
قد تكون quot;إسرائيلquot; من أكبر المستفيدين في الوقت الراهن من حالة التخبط والفوضى التي تعم العالم العربي والثورات العربية في سعيها للتغول على الفلسطينيين عبر توسيع مستوطناتها وتمددها على الأراضي الفلسطينية، كما تبدو حكومة بنيامين نتنياهو عازمة على القيام به، لكن انفجار المظاهرات التي يقوم بها الأفارقة في إسرائيل، وبالذات من كان ذا جنسية إسرائيلية منحهم يضع الكيان الاسرائيلي امام تحد المطالبة بالاعتراف بيهودية الدولة من قبل العالم والفلسطينيين، فضلاص عن تحدي التباهي بكونها واحة الديمقراطية والمواطنة في المنطقة، في ظل الزلازل التي باتت تتهدد الشرق الأوسط.

هشام منور.. كاتب وباحث