عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2008، نشرت النيويورك تايمس والهيرالد تربيون في 23 أكتوبر منه دراسة تحليلية موثقة عن مواقف كل من المرشحين اوباما وجون ماكين. وأبرزت الدراسة دعم أوباما للمبدأ الذي نادت به الأمم المتحدة، وهو quot; مسؤولية الحمايةquot;، والقصد حماية الشعوب والسكان المعرضين للقمع الجماعي الوحشي ولخطر الإبادة، وواجب التدخل الفعلي حتى داخل حدود دول الطغيان. وكان أوباما ينتقد ما اعتبره التقصير الأميركي تجاه شعب دارفور، الذي كان يتعرض لحملات قتل واغتصاب جماعيين.
وتمضي الأيام، ويتولى الرجل الرئاسة، فإذا به يتناسى وعوده وبرنامجه عند اندلاع الانتفاضة الإيرانية عام 2009، وينسي شعب دارفور، ولا يتخذ موقفا صارما من الغزو الروسي لجورجيا وقضم أراضيها. كما أصر في حملته الانتخابية على سحب القوات من العراق في منتصف 2010، وهو ما تلقفه المالكي ليمارس مزايداته ومناوراته خلال المباحثات مع إدارة بوش، الذي تطرق لذلك في كتاب مذكراته. وكانت النتيجة سحب القوات كلها في عهد اوباما، وعدم الإصغاء للقادة العسكريين الأميركيين الميدانيين، الذين كانوا يصرون على إبقاء قوات محاربة كافية لمساعدة القوات العراقية ضد القاعدة والأخطار الأخرى. ومع أن أوباما كان يعتبر حرب أفغانستان هي وحدها العادلة، فإنه سرعان ما راح يفكر في الانسحاب. ونتذكر مساجلاته مع الجنرال ماكفرنال، الذي طالب بإمدادات كافية من القوات لتحقيق النصر الحاسم على طالبان، وتردد اوباما شهورا، ثم إرسال ثلث العدد الذي طلبه الجنرال، الذي أجبر على الاستقالة فيما بعد. وبدلا من إرادة النصر، راح الرئيس لأميركي- المحاط بمستشارين ومساعدين مهووسين بالتخلي عن كل الإرث السابق وإدانته- يغازل حركة طالبان من وراء ظهر كرازي. وكتاب وزير الدفاع السابق غيتس ينتقد بشدة تردد أوباما، وعدم إصغائه للمؤسسة العسكرية، وتقديم حساباته السياسية الخاصة على كل شيء.
إن تخلي الإدارة الأميركية عن مبدأ حماية السكان المتعرضين للقمع الجماعي الوحشي، بدا بكل خطورته وعواقبه المأساوية في المسألة السورية، وذلك بعدم التحرك خلال أكثر من عام ونصف من القتل الجماعي في وجه تحرك شعبي كان سلميا. تلك السلبية، وسلبية مجلس الأمن، المختطف روسيا وصينيا، كانتا من عوامل اضطرار المعارضة السلمية لحمل السلاح، وخلق الظروف التي سمحت للإرهابيين بالتسلل، وشجعت نظام الأسد على اللعب بسلاح التخويف من القاعدة التي كان يتعاون معها ويستخدمها في العراق. وتتزايد البيّنات والوقائع اليوم على أن تنظيم داعش في سورية هو صناعة أسدية بامتياز، وبقيادة عناصر من المخابرات، سابقين وحاليين، وهو ما سبق التوقف لديه في مقالات سابقة. ونعرف كيف قفز اوباما على جثث أكثر من 100000 قتيل - واليوم أكثر من 150000 ndash; بعد الاتفاق الكيمائي، ولم يعد يتحدث عن حقوق الإنسان في سورية، تاركا الساحة لبوتين، تلميذ ستالين. وهذا، علما بأن السلاح الكميائي السوري لن يكمل التخلص منه قبل حزيران القادم وبعشرات الملايين من دولارات الأمم المتحدة، وعلما بأن قسما من أسلحة الأسد، ومنها منظومات صواريخ، تمكن من نقله لحزب الله على دفعات وبقطع. طبعا هذا لا يشغل بال الإدارة الأميركية ما دامت قد حققت quot;النصرquot; بالاتفاق الكيميائي!
أما عن إيران، فليس بخاف أن العلاقة مع إيران كانت الشاغل الأول والأهم لأوباما منذ حملته الانتخابية، والسعي نحوquot; الصفقة الكبرى مع إيرانquot; كانت، ولا تزال، همه الأكبر. إنه كان يدعو لquot;تغييرquot; السياسة الإيرانية، متوهما أن نظام الفقيه مستعد للتحول من نظام ثيوقراطي، شمولي، دموي وتوسعي لنظام ديمقراطي، مسالم، يتخلى عن مشروع تصنيع القنبلة وعن التدخل في شؤون دول المنطقة وعن مساعي التمدد ودعم الإرهاب والطائفية. وجاءته الفرصة بانتخاب روحاني والاتفاقية النووية المرحلية معه. أما عن حقوق الإنسان والمسألة الديمقراطية والتدخل الإيراني في شؤون الآخرين، فقد تركها اوباما وراءه. وها هي التقارير الموثقة الجديدة، القادمة من إيران، تصدم كل سياسات أوباما الإيرانية، وتبدد كل الأوهام عن quot;اعتدالquot; روحاني. التقارير الجديدة، وبالأسماء والتواريخ، تقدم صورة مرعبة حقا عن حكم الإرهاب المسلط على الشعب الإيراني. ففي 2013، كانت هناك 600 أحكام إعدام، ثلثاها في عهد روحاني بالذات. ومن بين من تم إعدامهم أمام الملا 25 امرأة و5 سجناء كانوا قاصرين أثناء الاعتقال- أي أن عهد روحاني شهد 430 إعداما، كدليل دامغ جدا على اعتداله المفرط!! وكانت الهيئات الدولية قد كررت مرارا حديثها عن تدهور وضع حقوق الإنسان في إيران، ولكن الإدارة الأميركية لا تكترث لذلك. وتقول التقارير الموثقة إن عام 2013 قدم مشاهد مروعة للإعدامات الجماعية والعلنية بهدف خلق أجواء الرعب في المجتمع، ومن ذلك في مدن نوشهر وبابول وقائم شهر وشيراز وجهرم وأهواز وشهر كورد وإيلام وكرج وغيرها. ونشرت وسائل الإعلام الرسمية صور الإعدامات. وفي كثير من الحالات، كما جرى في سجن رشت، كان السجناء يجبرون على مشاهدة شنق زملائهم. وعدا الإعدامات، فهناك سلاح منع العلاج الطبي حتى عن مرضى من كبار السن والنساء [ كما يفعل المالكي في العراق مع لاجئي ليبرتي وأشرف]. ولا يسمح المجال لذكر أسماء ضحايا هذه الممارسة الفاشية المرعبة، فالقائمة طويلة. وبجوار كل هذا، هناك ملاحقات منتظمة لأتباع الديانات الأخرى، من مسيحيين وبهائيين وزرادشتيين وغيرهم. وقد اعتقل عدد من القسس في طهران وفارس وأصفهان وآذربايجان بتهمة quot;العمل ضد الأمن الوطنيquot;، وquot;التبشير والدعاية للمسيحيةquot; والمشاركة في مراسيم دينية. ومن هؤلاء القس روبر أوناسيان وسعيد عابديني مع 4 مسيحيين إيرانيين، والحكم ما بين سجن وجلد 80 جلدة. وجرى تعطيل عدد من الكنائس، منها الكنيسة الأرمنية الرئيسة في طهران. أما عن حرية التعبير والصحافة، فان منظمة quot;مراسلون بلا حدودquot; نشرت مرارا بان quot;إيران واحدة من السجون الخمسة الكبيرة في العالمquot;. وثمة قمع للانترنيت، وغلق لمحلات تسجيل الموسيقى، وهو ما استنسخه المالكي في العراق!
أمام كل هذه الانتهاكات الوحشية للحريات وحقوق الإنسان في إيران، يلتزم أوباما الصمت، ويواصل خطوات quot; الصفقة الكبرىquot;. ومن أجل ترضية إيران، التزم، ويلتزم، الصمت المرعب عن حملات المالكي الدموية وعدوان المليشيات على لاجئي معسكر اشرف وسجن ليبرتي، مثلما سكت، ويسكت، عن عمليات التطهير الطائفي، وعما يدور في سجون ومعتقلات العراق، من تعذيب واغتصاب واعتقالات على الهوية المذهبية وإعدامات يومية- كما كشفت التقارير المتتالية، ولاسيما تصريحات القاضي النزيه منير حداد. ونقول إن ملاحقة الإرهابيين، بكل فصائلهم - من قاعدة ومن مليشيات إيرانية الصنع- واجب وطني عراقي من الدرجة الأولى، كما هي واجب دولي، ولكن الحرب على الإرهاب لا تعني قمع الحريات وسحق حقوق الإنسان، والتطهير المذهبي، والعدوان المتكرر على اللاجئين الإيرانيين العزل. ولو كان المالكي قد انتهج منذ بداية اعتصام الأنبار سياسة الحوار والانفتاح، ولم يقم بغاراته العسكرية، لما تمكنت داهش وغيرها من التغلغل في المدن، ولأمكن حقن الدماء وكسب جماهير الأنبار. والوقت لم يفت على أية حال.
إن الإدارة الأميركية وكل من يشاركونها الوهم، يجب أن يعوا بأن نظام الفقيه، وبحكم طبيعته وقيامه على مبدأ تصدير الثورة، دكتاتوري ودموي وإقصائي. فلا روحاني هو مثل غورباتشيف، ولا أوباما هو مثله، كما حاول أن يقنعنا الصحفي أوغناتيوس. فأوباما لم يرث نظاما شموليا قمعيا تنخره التناقضات الداخلية، كالنظام السوفيتي، وإنما جاء في انتخابات حرة وفي ظل نظام ديمقراطي عريق ووطيد في الدولة الكبرى، ولكنه ترأس بعقلية إدانة ورفض كل ما فعله أسلافه، وكان أميركا قبله كانت سبب شرور العالم وسبب طغيان الطغاة وعدوان أنظمة العدوان، وقد جاء هو لإنقاذ العالم من أميركا التي فقدت القيم والمعايير الإنسانية والأخلاقية!- [ كما ظل يكرر- وطبعا هي أميركا quot; البيضاءquot;!!]. والنتيجة العملية هي تراجع الدور والوزن الدوليين الأميركيين، وتشجيع الطغاة على مواصلة القتل والوحشية والعدوان وترك الساحة لبوتين وإيران والصين وكريا الشمالية. وهنا نتفق مع الأستاذ مشاري الذايدي حين يكتب أن بارك حسين اوباما هو أكثر قائد سياسي تسبب بهذه الفوضى والكوارث في منطقة الشرق الأوسط،... من الانفلات الإيراني والمجازر في سورية وعنجهية حزب الله في سورية ولبنان وإرهاب الإخوان المسلمين، وإلى تدهور الأوضاع في العراق.