ربما كان لدرجات الحرارة وانخفاضها طيلة أيام السنة في جبال كوردستان وقراها المنتشرة فوقها كنجوم تضيء سماوات الوطن، اثر كبير في انتشار الشاي الحار كتقليد يومي على مدار الساعة، أينما ذهبت في كوردستان يلاقيك الشاي مرحبا بحلاوة لا تماثلها أي حلاوة، فقد تعود أهل هذه البلاد على إضافة كميات كبيرة من السكر إلى الشاي، ربما لتعويض في الطاقة خاصة وإنهم مروا في حقب كثيرة من حياتهم لضغوطات عسكرية وحصارات عديدة كانت تمنع عنهم وصول كثير من المواد الغذائية، فأصبح الشاي المحلى كثيرا بالسكر مع الخبز أكلة مهمة لدى أغلبية الفقراء من الأهالي.

لقد أصبح الشاي أكثر ما يميز تعاطي الأهالي مع الضيوف كأول ما يقدم لهم في كل المناسبات، ورغم انه مشروب حار إلا انه يقدم أيضا في أيام الصيف الملتهبة أيضا، حيث ينتشر في كل مكان ليكون ملاذ الفرد خاصة إذا ما أراد أن يصفي ذهنه أو يروق كما يقول اللبنانيون الذين تتميز عاصمتهم بيروت بكونها من المدن القليلة في الشرق الأوسط التي تصر في الإبقاء على عراقتها ونكهتها وأصالة تقاليدها، رغم ما أصابها من إيقاعات التغيير المتسارعة خلال العقدين الأخيرين من نهاية القرن الماضي ومطلع القرن الحالي، لكنها لم تترك أثرا بالغا في بنيتها السلوكية والنفسية فما زال البيروتي هو هو كما كان والده في أربعينات أو ستينات القرن الماضي في كثير من تفاصيل الحياة اليومية ابتداءً من قهوة الصباح وانتهاءً في السهرة الحالمة بعيدا عن ضوضاء الجيل الجديد الذي انكفأ في كازينوهات ونوادي ليليلة في العاصمة وأطرافها، تتكثف فيها إيقاعات التغيير المتسارعة في السلوك والأداء، لكنها أيضا لا تخرج كثيرا عن جغرافية وإيقاعات القهوة!

وهنا أيضا ربما كانت رائحة القهوة كما في الشاي ونكهته المعروفة في كوردستان، أكثر تأثيرا وانتشارا وتركيزا في ترسبها على أسطح وأعماق الحواس والذاكرة، لكثرة ما في بيروت من دكاكين ومحامص لحبة القهوة، التي تعني لأهل لبنان المزاج والنكهة وتمنح جغرافية المكان عبقا آخرا وعنوانا يكلله متعة ارتشافها، وهو أي اللبناني اشطر من يعرف نوعها ونكهتها وكيفية تحضيرها وكم من الوقت تستغرق فوق النار الحامية أو الهادئة، كما يفعل الكوردستاني بسماوره ومنقل الفحم الذي يضفي للشاي رومانسية ونكهة لا تضاهيها أي نكهة أخرى؟

هذا اللبناني الذي يهرب من لهيب الصراعات ليحتسي فنجان منها وكأنها ملاذ آمن يحتضنه في أوج تألقاته، لا كما يفعل البعض منا في شهوة القهوة واحتسائها، وهو أيضا في كوردستان بدأ يشيع بشكل ملفت طقوس قهوته ونكهتها ورائحتها التي تحاول جرجرة الشاي إلى زوايا حادة، رغم ما تحمله من ماركات وإغراءات كثيرة؟

[email protected]