&

كانت مشكلة الأزمان السابقة في الندرة، أما مشكلة عصرنا فهي الكثرة التي تجعل الإنسان مستلباً للأشياء تتقاذفه الأمواج وهو لا يقدر على الاحتفاظ بتوازنه الداخلي.
كان الإنسان في عصور خلت يبحث عن تحقيق حاجاته الأساسية من مطعم وملبس ومسكن وبعض وسائل الراحة البسيطة، لكن الرأسمالية المهيمنة في هذا العصر لم تعد تنتج حاجات الإنسان الضرورية وحسب، بل صارت لأهداف تجارية تبادر لاختراع حاجات جديدة كان الإنسان يعيش قبلها دون شعور بأدنى نقص، فتغزو هذه الشركات عقل الإنسان بالدعاية والإعلان لتسويق منتجاتها، وتحول الكماليات والرفاهيات إلى ضرورات لا غنى عنها.
الكثرة تشتت الإنسان وتجعله عاجزاً عن الاختيار فينقضي عمره وهو يلهث خلف سراب دون إنجاز مثمر رغم أن الكثرة توهمه بتيسير العمل وسهولة الإنجاز وسعة الاختيارات..
عمل تسارع تطوير التقنيات على إبقاء الإنسان مستلباً لهذه المنتجات، فما يكاد يشتري جهازاً جديداً حتى ينزل إلى السوق إصدار أحدث فيلهث وراءه مخدوعاً بميزاته الجديدة وهو لا يعلم أن هذه الإضافات الجديدة ما هي إلا طعم له ليواصل لهاثه ، وأن هذه اللعبة المميتة بلا نهاية وسيصدر كل يوم منتج آخر وهذا يعني أنه سيظل مستلباً لاهثاً طوال حياته.
يقول القرآن: "ألهاكم التكاثر"، وهي حالة نفسية يتجسد فيها خضوع الإنسان للأشياء ولهاثه لامتلاكها مما يفقده الطمأنينة الداخلية والتوازن النفسي..
مشكلة التكاثر لا تقتصر على السلع المادية وحسب، بل حتى وفرة المعلومات ووسائل الاتصال وملء الوقت بالأعمال والتجارة وإن كانت إيجابيةً من أحد الجوانب إلا أنها سلبية في أنها تنسي الإنسان نفسه.
يقول سيكار إن الزمن الصناعي المتواصل لا يدع على الإطلاق للإنسان المنعزل أن يواجه نفسه..
إن التحدي المعاصر هو ألا ينسى الإنسان نفسه في غمار الأشياء ..
في جيل آبائنا لم يكن الانترنت قد غزا المجتمعات، وكان التلفاز يقتصر على أقل من خمس محطات أرضية، لكن إرادة القراءة والثقافة كانت أكبر، فكان الكتاب الواحد يدور بين العشرات من أبناء الحي يقرأه أحدهم بنهم ثم يعطيه لغيره ويبادله بكتاب آخر، وكانت مشاهدة التلفاز تتم بتركيز أكبر إذ تجتمع العائلة لمشاهدة برنامج أو مسلسل حتى& نهايته، لكن في ظل وجود مئات الفضائيات اليوم فإن المشاهد لا يصبر أكثر من دقائق قليلة قبل أن يدير جهاز التحكم في يده باحثاً عن فضائية جديدة.
نظرياً فإن إتاحة معلومات أكثر تجعل الإنسان أكثر ثقافةً وعلماً، لكن التجربة العملية تقول إن كثرة المعلومات تشتت الناس وتبعث فيهم الملل، فمتصفح الانترنت لا يكاد يتم قراءة مقالة حتى نهايتها، ويقضي الساعات الطوال متنقلاً من موقع إلى آخر دون الخروج بفائدة معتبرة..
يبدو أن قلة الموارد هي التي تخلق التحدي في نفوسنا للإبداع والإنجاز أما كثرتها فهي تدفعنا للتراخي والتلهي..
لعل هذا ما يفسر لنا أن أكثر العباقرة عبر التاريخ هم أولئك الذين نشئوا في ظروف قاسية، فأجواء الراحة والوفرة تفسد الإنسان أكثر مما تصلحه "إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى"..
في زمن التكاثر يتاح للمرء امتلاك آلاف الكتب الالكترونية المجانية ومع اقتناء كل كتاب جديد يتوهم أنه اقترب أكثر من العلم والمعرفة، لكن المحصلة هي كتب أكثر وقراءة أقل، لأن حمى الامتلاك والسيطرة صار بديلاً عن القراءة الفعلية المنتجة.
"ألهاكم التكاثر" آية تفتتح بها إحدى قصار السور قرأناها وسمعناها في حياتنا آلاف المرات دون أن يخطر ببالنا عظم الأسرار النفسية التي تحتويها هاتان الكلمتان، لكن هذه الآية القصيرة كانت سبباً كافياً لإحداث تحول جذري في حياة أحد أهم الشخصيات الغربية المتحولة إلى دين الإسلام!
إنه ليوبالد فايس اليهودي النمساوي الذي أسلم وغيَّر اسمه إلى محمد أسد& يتحدث عن رحلته التي عاشها قبل إسلامه فيقول: " كنت مسافراً في سنة 1926 في قطار برلين تحت الأرض، وكانت معي زوجتي، وقد لاحظت أن كل زملائي في هذه الدرجة (درجة أولى) مكتئبون، تعلو وجوههم كآبة، وكان ما يحملونه من متاع ويلبسونه من ملابس ويتحلّون به من خواتم يدل على أنهم من الطبقة الثرية، فأنا تحيّرت وفكّرت وقلت: لماذا هذه الكآبة؟ وما سبب هذا الحزن العميق الذي هم غارقون فيه؟ ولفتّ نظر زوجتي وقلت: يا عزيزتي، انظري وجوه هؤلاء القوم! ألا تشعرين بأنهم تعلوهم الكآبة؟ قالت: نعم، إنهم جميعاً يبدون وكأنهم يعانون آلام الجحيم!
وأردت أن أفسر هذه الظاهرة فلم أنجح، ورجعت إلى مكتبي فإذا المصحف أمامي، فأخذته من غير قصد، وفتحت من غير اختيار فإذا سورة التكاثر تطالعني، حيث يقول الله تبارك وتعالى: "ألهاكم التكاثر" وكنت متردداً: هل أدخل في الإسلام أو لا ؟ ولما قرأت هذه السورة قلت: إن هذا الكلام يصور المجتمع الغربي المعاصر الراقي بقسماته ومخايله، ويتنبأ بالعذاب النفسي الذي يتميز به هذا القرن العشرون على الرغم من رقيه الصناعي والحضاري، ويعيّن مصدر هذا العذاب والشقاء الذي كان يعانيه ركاب القطار، ويعانيه المجتمع الأوروبي بشكل عام وهو داء التكاثر لا غير." انتهى كلام ليوبالد فايس..
إن الوفرة وإشباع الحاجيات الأساسية لدى ملايين سكان الأرض اليوم سيدفعهم بالضرورة إلى البحث عن أبعاد أخرى في هذه الحياة تتجاوز المادة التي امتلكوها بالفعل لكنها لم تحقق لهم الرضا والمعنى.
يقول دانيال بينيك في كتابه "عقل جديد كامل"، وهو من أكثر الكتب مبيعاً: "لقد أضفت الوفرة على حياتنا أشياءً جميلةً ولكن ذلك الكم الهائل من البضاعة المادية لم يجعلنا أكثر سعادةً بالضرورة، وهذا هو السبب في لجوء عدد متزايد من الأشخاص الذين حررهم الرخاء والازدهار ولكن لم يحقق لهم الرضا والإشباع إلى البحث عن المعنى والغاية."
يواصل دانيال بينيك:
&"اذهب إلى أي مجتمع مزدهر إلى حد ما في الدول المتقدمة وإلى جانب فرص التسوق العديدة يمكنك أن تلمح تجسيداً لمطلب السمو يتمثل في الإقبال الشديد الذي أصبح شائعاً على ممارسات كانت غريبةً ذات يوم مثل اليوجا والتأمل إلى ازدياد الاهتمام بالروحانية في أماكن العمل والموضوعات الدينية في الكتب والأفلام.. أصبح السعي من أجل الغاية والمعنى جزءً مكملاً لحياتنا"
إن التحدي الأساسي الذي بات يواجه الإنسان في هذا العصر هو كيف ينتزع الطمأنينة في عالم الملهيات، وكيف يجد نفسه وسط كثرة الأشياء..
[email protected]

&