والميت هو الضمير العراقي. فمنذ سنوات، بل وقبل خمسة عقود من عمر الزمن وبالذات في السابع عشر من تموز عام 1968 باشروا بإعداد التابوت وخياطة الكفن المناسب حسب مقاسات الضمير وهم ينظرون إليه وهو يتآكل وتذبل روحه الطيبة حتى لفظ أنفاسه الأخيرة ومات!

سيدي الميت المكفن في وطني،

سلام عليك يوم ولدت ويوم مت ويوم تبعث حيا.

لقد غيب الموت الفا وخمسمائة طفل عراقي من أطفال العراق النازحين، ماتوا من قسوة الجوع وشدة البرد. لم يكترث لموتهم أحد بعد أن غيبك الموت سيدي الميت المكفن. لم تكن ثمة بيوت تأوي النازحين وأطفالهم، ولو كنت على قيد الحياة سيدي الميت المكفن لتنادى "ربما" بضعة لصوص بالتبرع بالبيوت البلاستيكية، لكنهم وبعد موتك صاروا يتزاحمون للحصول على مناقصة إستيراد بيوت البلاستيك كي يحققوا مزيدا من الأموال غير المشروعة لتضاف للأموال غير المشروعة التي دونت في كتاب "دروس صعبة" منهوبة بأسماء ناهبيها والبالغة خمسائة وأربعة وخمسين مليار دولار نضدت في خزانات مصارف الغرب!

إن قيمة البيت البلاستيكي سيدي الميت المكفن بمقاس ثمانية أمتار طول وستة أمتار عرض يساوي ثلاثة آلاف دولار لا غير! وثمة عراك يجري اليوم وإتهامات تدور تحت قبة البرلمان بصدد فساد يتعلق بالأموال المخصصة إلى اللاجئين الذين غيب الموت من أطفالهم الفا وخمسمائة طفل "فقط" لم يفكر أن يدفع أحد حجاج بيت الله الحرام من ماله الحرام زكاة تحمي طفولة العراق من الموت بل هو يدخل زحام المناقصات للحصول على مناقصة تزويد العراق ببيوت السكن البلاستيكية إلى الللاجئين!

وبموتك سيدي الميت المكفن، إستشهد الف ومائتي عراقي في شهر تشرين ثاني فقط عام 2014 ومعهم ألف وستمائة وسبعة وستين جريحا حسب الأمم المتحدة وقريب من هذا الرقم كل شهر من كل عام. وبموتك سيدي الميت المكفن لم يبحث الأمر في رئاسة مجلس الوزراء حيث هم مشغولون بمناقشة حصة الكورد من النفط وحصة العرب منه. الجرحى سيدي الميت المكفن أصعب حالا من الموتى حيث الأطباء مخطوفون والمستشفيات خالية منهم ولا أحد يرحم أنين الجراح!

بموتك سيدي الميت المكفن، يتقاضى الكثيرون رواتب لجنود لا وجود لهم يبلغ تعدادهم في المؤسسة العسكرية وحدها خمسين ألفا. هم مجموع ثلاث فرق عسكرية لها مقرات في الموصل تحمي المدينة من الغرباء فجاء الغرباء من الجزارين ودخلوا المدينة والجنود يتقاضون رواتبهم من وزارة الدفاع وهم ليس لهم وجود ولا في الموصل ولا في بغداد!

المنتسبون الوهميون لم يكونوا في وزارة الدفاع فحسب سيدي الميت المكفن، بل هي ظاهرة ظريفة ودامية الظرافة والضحك الذي يقطر دما في كل وزارات العراق ومؤسساته!

بموتك سيدي الميت المكفن فتحت حدود العراق لتدخل منها أكثر من ستمائة سيارة تويوتا رصاصية اللون أرسلتها الشركة اليابانية إلى تركيا لتستقر في معسكرات التدريب التي تضم الغرباء كي يفتح لهم أهل البلاد حدودنا المصونة المعتبرة ليمر عرسهم الدامي مكللا بالرايات السود والبنادق الرشاشة تطلق النار من فوهاتها عبر شبابيك التويوتا. يأتون مستهدفين النفط الهدف الأساس من اللعبة العالمية كي ينهار إقتصاد الوطن ويموت الناس من شدة البرد ومن شدة التلوث ومن شدة الأغذية الفاسدة.

صرنا سيدي الميت المكفن نشتري النفط منا ونبيعه لنا فلم نبن سدا منيعا في حدودنا يحمينا من الأعداء ولم نعرف ولا راقبنا الآتين والغادين ولم ننشئ مدرسة نموذجية لجيلنا الآتي بل أشعلنا من النفط ناراً حامية نلقى فيها أهلنا في أتون الجحيم كل يوم، ويوم نقول لجهنم هل أمتلأت وتقول هل من مزيد!

بموتك سيدي الميت المكفن صدر قانون العشائر ليصبح للدولة دستوران، دستور للدولة ودستور لأهل الدولة، وعدنا لدولة الكهنة الأولى في بداية التحول الإنساني للحياة. وعندما تلاشت دويلات الكهنة إنتمينا لقبائل الزولو أكلة لحوم البشر في مجاهل أفريقيا وصرنا نطلق الصيحات كما هم وكما الهنود في السينما الأمريكية كما يصورهم الأمريكان. نطلق الصيحات والهوسات في رحيل الموتى وفي الخلاف على خروف سرقه واحد من عشيرة بني ميم من خراف عشيرة بني نون. فقطعت العشيرة ألأولى الطريق العام وسدت العشيرة الثانية مجرى الماء ورفعت الرايات بالهوسات وسقط جرحى وقتلى من العشيرتين. وتمت تسوية الأمر بفصلية أن يتزوج المسروق إبنة السارق البالغة من العمر إثني عشر عاما بالتمام والكمال، ويصفونها جميلة مثل القمر! فساد قانون العشائر وتلاشى القانون الوضعي، ولم يبق له وجود سوى تحت سقف البرلمان للتسلية ومادة للبرامج التلفزيونية!

بغيابك سيدي الميت المكفن صار العراقيون يبيعون النفط للعراقيين، فيما داعش دولة الخلافة الإسلامية الثانية التي تشبه الأولى على ما يبدو تبيع النفط للأتراك ولبني إسرائيل بأسعار مخفضة كي يسري الدفء في أوصال الاتراك والإسرائيليين وفقا لمنهج الخلافة الإسلامية "يا بني إسرائيل إذكروا نعمتي التي أنعمت بها عليكم وأني فضلتكم على العالمين"! فإنهار الإقتصاد العراقي وتعطلت الميزانية بموتك سيدي الميت المكفن!

بموتك سيدي االميت المكفن أرسلنا الفا وسبعمائة شاب حالم ليتعلم الطيران في السماء كي يحمي أرض الوطن، أرسلناهم ضحية بوعي مسبق في حضن العدو كي يطمئن ساديته ويتسلى بنحرهم وسكتنا عن الخبر الفاجع حتى أتت عشائر بني أسد كي ترد الرؤوس إلى أجسادها وتغسل الموتى فقالوا لهم أتركوهم "الشهداء لا يجوز تغسيلهم"!

وبموتك سيدي الميت المكفن وضعنا في بوابة الوليد سبعة عشر عسكريا فحسب كي يأتيهم المئات من الدواعش الذابحة سليلو الخلافة الإسلامية كي ينحروهم بين بغداد والشام فيما بلدان العالم تنشأ المدن والمطارات العسكرية على حدودها كي تحمي وتطمئن حراس الحدود وتطرد عنهم الوحشة.

بموتك سيدي الميت المكفن هجر الشرفاء وطنهم وتركوه لمن رقص عريسا محتفيا بغيابك، إذ لم يعد ثمة رقيب على اليد الطويلة التي أمتدت نحو خزائن المصارف ورحلت المال والسبائك لبلدان العالم وآخرها لبنان لتحفظ هناك في بيت المسلمين! فسافر قاتلوك والذين داسوا عليك بأحذيتهم والبصاطيل والمداس، سافروا إلى بيروت بدعوى تبادل المعلومات الإستخبارية بين لبنان والعراق ما يذكرني سيدي الميت المكفن بإحتلال كبير ميتي الضمير، الدكتاتور المقبور دولة الكويت كطريق لتحرير فلسطين بإعتبارها متاخمة لحدود فلسطين! وهكذا ذهب الرؤوساء الجدد إلى بيروت لتبادل المعلومات الإستخبارية في مواجهة داعش بإعتبار بيروت متاخمة لحدود هيت!

بموتك سيدي الميت المكفن صرنا نختلق الحكايات ونلصقها بسيد الشهداء الحسين بن علي ومعركة الطف لنحولها من حقيقة لها معان وأهداف وحلم في اليقظة والمنام ومجد في الأداء، حولناها إلى خرافة وأفقدناها معانيها وبدلا من أن نروي ظمأ العطاش من أبناء الوطن تعويضا عن عطش الحسين التاريخي بماء نظيف من دجلة والفرات والشاطئ صرنا نلقي جثث الشهداء في مياه الوطن وندفن المواد السامة فيه ونوجه مواسير الغائط نحو مياه الأهوار، ونهدد بتفجير السدود من أجل أن نغرق المدن، فيما الجميع منشغلون في النهب بغيابك سيدي الميت المكفن.

سيدي الميت المكفن، كان الحسين نجما في الفضاء وبإستشهاده شع نوره في السماوت، واليوم بغيابك سيدي الميت المكفن تحول الإمام الحسين إلى نجم على شاشة التلفاز.

بموتك سيدي الميت المكفن صرنا نهدي مواكب الحسين براميل النفط فيما هي الثروة التي عبر عنها الحسين بـ "الفيء" لا يجوز الإستئثار بها لأنها حق الناس في الحلال وهي قادرة على أن تزرع أرض الوطن نخلا وتجني رطبا جنيا، وتشهق بالبيوت الصاعدة والمصطفة وتدغدغ موسيقى السماء أحلام أطفال الوطن ويرتقي العراقي بحديثه الأنيق ويعرف أصول الحياة وتجعل من جبال الوطن سورا يحميه من صد الصواعق والدواعش لا حاضنة لإرتالهم السوداء، ويصبح العراق وطنا لا تنزل عليه آيات الله "ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا" لأن الثروة "الفيء" قادرة على أن تجعل من العراق بلا مسكين ولا يتيم ولا أسير، وطنا مثل الحلم الجميل ومثل جنة السماء على الأرض، وفي ذلك معنى ثورة الحسين الخالدة.

بموتك سيدي الميت المكفن قالوا على لسان الحسين "ألا من ناصر ينصرني ألا من معين يعينني" وهو المترفع عن مثل هذا القول لأنه القوي القائل لأصحابه "هذا ليل غشيكم فإتخذوه جملا" أرادوا إستدعاء الدمع فيما علينا إستدعاء الوعي والحكمة المزدهرتين في ثورة الإمام الجميل عليه السلام.

بموتك سيدي الميت المكفن، صرنا نخاف قول الحقيقة لأن من حولنا الف الف شبث بن ربعي و ألف الف حجار بن أبجر وألف ألف عمر بن سعد وألف ألف عبيد الله بن زياد وألف ألف حرملة وألف ألف شمر بن ذي الجوشن!

بموتك سيدي الميت المكفن جلس الفرقاء بربطات العنق الحريرية تتوسطهم الجبب والعمائم يتحاورون خلف الخراف المسجاة على رز الكوارث يمتزج دم الذبيحة بدم الشهيد في صلصة الفاصوليا الحمراء فيتخمون وينامون من التخمة فيما أطفال العراق يموتون من الجوع والبرد. إجتمعوا وراء تلك المواد المريضة كي يحسبوا نفوس العراق ونفوس الطوائف ليتقاسموا "فيء" العراق ويحيلوا حلال الله حراما. لا يزالون يحسبون نفوس العراق حسب إحصائيات أعوام الستينات، ولم يحسموا منها عدد شهداء الحروب ولا عدد الميتين تفخيخا وخطفا ونحراً طوال خمسة عقود من الزمن! وتتم المحاصصة والإستئثار بـ "الفيء" وفق عدد النفوس فيما يسري النفط سراً وتتدنى أسعاره كي يختل ميزان المدفوعات. وبغيابك سيدي الميت المكفن إلتفتنا نحو الرصيد الإحتياطي كي نغطي العجز في ميزان المدفوعات، فوجدنا الخزينة خاوية!

سيدي الميت المكفن،

السلام عليك يوم ولدت ويوم مت ويوم تبعث حيا!

&

سينمائي وكاتب عراقي مقيم في هولندا

&

[email protected]