الأصل الذي تنشأ منه العبادة الصورية التي يحسب الإنسان أن يجد ضالته فيها ما هي إلا إحدى الركائز التي يعتمدها الشيطان في إغواء أتباعه، وربما تكون في ظاهر تلك العبادة سمات إيمانية فوق القدر الذي يجعل الكثير من الناس يأخذ بهذا النهج دون التحقق من باطنه الذي يُعد في نظرهم من الإيمان وما هو منه، ومن الأمثلة على ذلك ما نشاهده من المسميات التي لها أبعاد مادية، لا يستقر وجودها إلا إذا كانت توجهاتها خارجة عن الاستقامة التي تجانب الأسس الشرعية، كما هو الحال في بناء دور العبادة التي يدعو أصحابها إلى الأفعال الشيطانية، وانتشار الضلال، وتفشي العقائد التي تسبب هلاك البشرية، وصولاً إلى الفساد بكل أنواعه، وأنت خبير من أن الغطاء المباشر لتلك الأفعال لا يمكن أن يخرج عن ظاهر المسميات الإيمانية وهذا الأمر قد يبنى على كثير من الفوارق التي لا حصر لها، وكما ترى فإن الطرق الشكلية لا تتناسب مع النهج الذي قدره الله تعالى ما لم تكن هناك وسائل تبينه وتأخذ به، وأنى للإنسان ذلك إذا كان زمام أمره بيد القوى المتسلطة التي تعمل بالمنهج الأرضي الذي من أهم مصاديقه عبادة الشيطان التي نهى عنها الحق سبحانه كما في قوله: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين) يس 60. والسياق يدل على أن العبادة هي الطاعة في هذا المورد، أي لا تطيعوا الشيطان.
من هنا يظهر أن أتباع الشيطان قد ألزموا أنفسهم بإغواء الآخرين، تحت تلك المسميات التي أشرنا إليها حتى أصبحت الموازين الأرضية آيلة إلى الزوال، وذلك بسبب اعتمادها الوجه الآخر لمسمى الإيمان، مما جعلها تبتعد عن أصل الفرضيات التي إتفق العقلاء عليها، ولهذا ظلت ملازمة إلى المنهج الأرضي الذي يقابل منهج الحق، ثم أخذت بالانتشار، حتى باتت هي الأقرب إلى أحد الأطراف التي أقرها الإنسان وجعلها لا تخرج عن مشيئته، ولهذا عُدّت من المسلمات التي لا يمكن الاستغناء عنها، وذلك لدخولها في الميدان الكبير الذي فرضه الشيطان على أتباعه، ومن هنا نرى أن القرآن الكريم يطلق مصطلح الغرور على فعل الشيطان تارة، كما في قوله تعالى: (يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً) النساء 120. وتارة يجعله مسبباً للغرور، مما يجعل الاسم صفة دالة عليه، باعتبار أن هناك حالة من التلازم بين الغُرور والغَرور كما في قوله: (فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور) لقمان 33. فاطر 5. وكذا قوله تعالى: (حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور) الحديد 14. وبالتالي أصبح الغُرور من المشتركات الفعلية بين شياطين الإنس وشياطين الجن، وهذا ما أشار إليه سبحانه بقوله: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً) الأنعام 112.
وبناءً على هذا فقد حذر الله تعالى الإنسان من أن يقع ضحية لهذا الغرور، الذي تظهر آثاره في جميع الاتجاهات، التي يسعى إليها، والتي تدخل ضمناً في الأفعال التي يتسبب بها الشيطان بواسطة القوى التي يسخرها، مما يجعل النتائج تؤول إلى فرضيات ليس لأصحابها خيار إلا الدخول إلى ساحاتها والتزود بنزغاتها، ومن هنا تفرقت تلك النزغات عبر الأجيال، وهذا ما جعل الملائكة والبشر وكذا الكواكب تُعبد من دون الله تعالى، ولذلك انتقل الإنسان إلى السير خلف السبل التي ترضي الشيطان، وما يزينه من القبيح حتى ظهر هذا الأمر جلياً من خلال اتخاذه لأنماط العيش المادية دون المعنوية، ومن هنا أصبح مسيراً بيد الشيطان، وهذا ما يتضح من خلال التغيرات الدخيلة التي طرأت على حياته والمتمثلة بتبديل جنسه، أو إحاطته بمجموعة من القيم والمعتقدات التي لا يمكن أن تتقارب مع المهمة الملقاة على عاتقه، وهذا ما يفهم من قوله تعالى: (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) النساء 119. أي بالتغيرات المادية الطارئة التي تظهر على نفسه أو على ممتلكاته كالأنعام مثلاً، "وسيمر عليك هذا المعنى في المساحة المخصصة لآراء المفسرين" أو بالتغيرات المعنوية والتي من أهم مصاديقها تبديل فطرة الله التي فطر الناس عليها، والتي ذكرها تعالى في قوله: (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) الروم 30.
فإن قيل: كيف يتمكن الشيطان من إغواء الإنسان وما هي السلطة التي منحت له؟ أقول: العداء بين الشيطان والإنسان لا يخرج عن دائرة الصراع بين الحق والباطل، ومحصل ذلك ناتج عن التنافر بين الطرفين والذي كان سببه حرمان إبليس من رضا الله تعالى وقيامه في إغواء الكثير من الناس، ولو أردنا تعريف هذا الأمر أو تعليله فلسفياً لم نجد له وصفاً إلا ما ارتضاه الحق سبحانه، وذلك لا يستقيم إلا بالفصل بين الخير والشر، من أجل أن يأخذ الاختبار صورته الطبيعية التي يجب أن يكون عليها، ولهذا فقد زود الله تعالى الشيطان بمجموعة من الأسلحة الفتاكة التي جعلها مقابل الصفات الخيرة التي يمتاز بها الإنسان وإن شئت فقل تلك التي لا تخرج عن قدرته وإرادته، علماً أن التفاضل بين الناس لا يتم إلا بهذا الوجه، ومن هنا بدأ الشيطان مهمته في إغواء آدم وزوجه حتى أخرجهما من الجنة وهذا ما يفهم من قوله تعالى: (قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) الأعراف 24. وبعد أن استقر الإنسان في الأرض أخذ إبليس بتنفيذ الوعود التي قطعها على نفسسه أمام الله تعالى والتي من أهم مصاديقها الغواية التي يأتي بواسطتها إلى الإنسان من جميع الجهات سواء كانت تحت مسمى الإيمان أو تلك التي ترتبط في الجانب الأرضي، وهذا ما يظهر من قوله تعالى حكاية عنه: (قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم***ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين) الأعراف 16-17.
من هنا يمكن أن نصل إلى الفرق بين وعد الشيطان المشار إليه آنفاً وبين وعد الله تعالى الذي بين من خلاله الكيفية التي تفرق بين الفقر والمغفرة إضافة إلى معرفة السبل التي يحصل الإنسان بسببها على الفضل الناتج عن وعد الحق سبحانه، وهذا ما يظهر من قوله: (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم) البقرة 268. وعند تأمل ودراسة أبعاد هذا التحذير نجد أنه يحمل في جوانبه الكثير من الصفات المبطنة التي تجعل الاختيار قائما من جهة الإنسان، وما يقابل ذلك من النصيب المفروض الذي يراه الشيطان متمثلا في أتباعه الذين يأتمرون بأمره، مما يجعلهم على مقربة من تبديل خلق الله تعالى الذي ذكرنا الكثير من مصاديقه في معرض حديثنا، وهذا ما يظهر من خطابه الذي واجه به الحق سبحانه، والذي بين فيه قدرته على الإضلال وتقديم الأماني للإنسان، ثم شفّع ذلك بتبتيك آذان الأنعام وصولا إلى تغيير خلق الله، وهذا ما ذكره تعالى على لسانه في قوله: (ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً) النساء 119.
هذا ما لدينا وللمفسرين في الآية آراء:
الرأي الأول: قال ابن الجوزي في زاد المسير: قوله تعالى: (ولأضلنهم) قال ابن عباس: عن سبيل الهدى وقال غيره: ليس له من الضلال سوى الدعاء إليه، وفي قوله: (ولأمنينهم) أربعة أقوال: أحدها: أنه الكذب الذي يخبرهم به، قال ابن عباس: يقول لهم لا جنة ولا نار ولا بعث. والثاني: أنه التسويف بالتوبة روي عن ابن عباس، والثالث: أنه إيهامهم أنهم سينالون من الآخرة حظاً، قاله الزجاج. والرابع: أنه تزيين الأماني لهم، قاله أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: (فليبتكن آذان الأنعام) قال قتادة وعكرمة والسدي: هو شق أذن البحيرة. قال الزجاج: ومعنى (يبتكن) يُشقّقن، يقال: بتكت الشيء أبتكه بتكاً إذا قطعته، وبتكه وبتك، مثل قطعه وقطع، وهذا في البحيرة كانت الجاهلية إذا ولدت الناقة خمسة أبطن، وكان الخامس ذكراً، شقوا أذن الناقة، وامتنعوا من الانتفاع بها، ولم تطرد عن ماء، ولا مرعى، وإذا لقيها المعيي، لم يركبها. سوّل لهم إبليس أن هذا قربة إلى الله تعالى. وفي المراد بتغيير خلق الله خمسة أقوال: أحدها: أنه تغيير دين الله، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وسعيد ابن المسيب وابن جبير، والنخعي، والضحاك والسدي، وابن زيد ومقاتل وقيل: معنى تغيير الدين: تحليل الحرام وتحريم الحلال. انتهى.
ومن أراد الأقوال الأخرى فليراجع تفسير زاد المسير.
الرأي الثاني: يقول ابن عاشور في التحرير والتنوير: معنى (ولأضلنهم) إضلالهم عن الحق. ومعنى (ولأمنينهم) لأعدنّهم مواعيد كاذبة، ألقيها في نفوسهم، تجعلهم يتمنون، أي يقدرون غير الواقع واقعاً أغراقاً في الخيال، ليستعين بذلك على تهوين انتشار الضلالات بينهم. يقال: منّاه: إذا وعده المواعيد الباطلة، وأطعمه في وقوع ما يحبّه ممّا لا يقع، قال كعب: فلا يغرنك ما منّت وما وعدت، ومنه سمي بالتمني طلب ما لا طمع فيه، أو ما فيه عسر. ومعنى (ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام) أي آمرنهم بأن يبتكوا آذان الأنعام فليبتكنها، أي يأمرهم فيجدهم ممتثلين، فحذف مفعول أمّرّ استغناءً عنه بما رتب عليه والتبتيك: القطع: قال تأبط شراً:
ويجعل عينيه ربيئة قلبه......إلى سلة من حد أخلق باتك
وقد ذكر هنا شيئاً ممّا يأمر به الشيطان ممّا يخص أحوال العرب، إذ كانوا يقطعون آذان الأنعام التي يجعلونها لطواغيتهم، علامة على أنها محررة للأصنام، فكانوا يشقون آذان البحيرة والسائبة والوصيلة فكان هذا الشق من عمل الشيطان، إذ كان الباعث عليه غرضاً شيطانياً. وقوله: (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) تعريض بما كانت تفعله أهل الجاهلية من تغيير خلق الله لدواع سخيفة، فمن ذلك ما يرجع إلى شرائع الأصنام، مثل فقء عين الحامي وهو البعير الذي حمى ظهره من الركوب لكثرة ما أنسل، ويسيّب للطواغيت، ومنه ما يرجع إلى أغراض ذميمة كالوشم إذ أرادوا به التزيّن، وهو تشويه، وكذلك وسم الوجوه بالنار، ويدخل في معنى تغيير خلق الله، وضع المخلوقات في غير ما خلقها الله له، وذلك من الضلالات الخرافية، كجعل الكواكب آلهة. وجعل الكسوفات دلائل على أحوال الناس، ويدخل فيه تسويل الإعراض عن دين الإسلام، الذي هو دين الفطرة، والفطرة خلق الله، فالعدول عن الإسلام إلى غيره تغيير لخلق الله، وليس في تغيير خلق الله التصرف في المخلوقات بما أذن الله فيه، ولا ما يدخل في معنى الحسن. انتهى.
وفي البحث بقية من أرادها فليراجع تفسير التحرير والتنوير.
&
&
&
&
التعليقات