&

بعد سنتي الأولى في الجامعة كنت في زيارة إلى سوريا وخلالها ذهبت لزيارة أقارب لنا في ضواحي دمشق مع والديّ وصادف أنني كنت أقرأ رواية الإخوة كارامازوف لفيودور دوستويفسكي. وكنت آخذها معي إلى كل مكان ذلك الأسبوع. وأي شخص قرأ رواية لدوستويفسكي سيقدر كم من الصعب تركها متى بدأت بها. في المساء اقترح مضيفونا "شمة هوا" وأضافوا أن حظنا جميل لأنه يوجد عرس شركسي بالقرب من المكان ويمكن أن نشاهد بعضا من الرقص الشركسي الفولكلوري. توقعت أن يكون المكان مزدحما كما هي عادة الأعراس وأننا سنقف بعيدا لنرى مكان العرض وأنا لست بتلك الطويلة وتخيلت نفسي أقف بعيدا وأرى من الرقص فقط رؤوس المتحمسين أمامي وكانت روايتي في وسطها والحبكة قد أصبحت سميكة تسحبك مثل ثقب أسود، فاعتذرت عن الخروج وفضلت البقاء في البيت مع دوستويفسكي. ودعنا الأقرباء بعد السهرة وفي طريق العودة قالت لي أمي أن مضيفنا أبدى قلقه علي وقال لهم "ابنتكم غير طبيعية. من غير الطبيعي أن تفضل فتاة القراءة على الذهاب لمشاهدة حفلة. أنصحكم بعرضها على طبيب نفسي!" أعجبني تشخيص الجنون الذي وصلني وقلت لأمي: "على هذه الحالة، عائلتنا كلها مجانين فالجميع مدمنون على القراءة."

منذ صغري وأنا أعيش بين أناس يحملون معهم الكتب أينما ذهبوا وكانت تعانق جلساتنا رفوف الكتب الكثيرة المحيطة بنا في أرجاء البيت. لذلك لم أعرف تماما أن القراءة تُعتبر جنونا أو شيئا غريبا حتى كبرت وبدأت أسمع مثل هذه الاتهامات والتشخصيات.
يوجد بالفعل خوف خفي من القراءة في ثقافتنا. يا ترى لم هذا الخوف من القراءة؟
برأيي أن هذه الظاهرة متفشية في اوطان الاستبداد السياسي والديني بسبب الخوف من تحرر العقل. وشيئا فشيئا أصبحت الطابع العام بين الناس حتى أصبح منظر شخص يقرأ شيئا غريبا وأحيانا مصدرا للسخرية والاتهامات كما حصل معي. والمحزن في الأمر أننا أمة "كتاب" والقرآن بدأ نزوله بكلمة "اقرأ!" وعندنا في انجيل يوحنا نرى "في البدء كانت الكلمة،" وفي التوراة نقرأ "أنا الفهم لي القدرة، ثمري خير من الذهب ومن الإبريز، وغلتي خير من الفضة المختارة، في طريق العدل أتمشى، في وسط سبل الحق."
يعتمد الاستبداد السياسي على نظام الحزب الواحد والأب الواحد والهتاف الواحد والتفكير الواحد. والقراءة تشكل خطرا على هذا النموذج لأن القراءة بطبيعتها تتنافى مع الرأي الواحد. كل كتاب يحمل فكرة جديدة وكل مقال يحمل مفهوما مختلفا لموضوع ما. لهذا سُجن ابن خالتي لسنتين ونصف بتهمة قراءة مقال سياسي في وطن الرأي الواحد! أما الاستبداد الديني فهو بالمرصاد، إن لم يكن أشد حقدا، تجاه الآراء المختلفة بحجة الحفاظ على الدين والأخلاق من الضياع – وأول طريقة هي إغلاق باب القراءة. أعرف أن هناك من سيجادل ليقول أصحاب التدين التقليدي ليسوا ضد القراءة. طبعا، حتى نظام الاستبداد شجع على قراءة كتاب القومية وكذلك الاستبداد الديني وضع المنهاج المسموح من كتب التراث والتفسير والمراجع المرضي عنها والتي لا يجوز الخروج عنها وإلا أصبحنا "تائهين." أذكر عندما كنت صغيرة وكنا نعيش في السعودية أننا كنا في زيارة لعائلة من الذين يهتمون بالفكر والخروج بالأمة من وضعها الحضاري المؤسف وكنت كعادتي قد تسلحت بكتاب سميك يقيني الملل من أحاديث الكبار. لا أذكر اسم الكتاب ولكن أذكر أنه كان مليئا بقصص الجن والأرواح وكان ممتعا جدا. وعندما أصبح الحديث همسا بين السيدة الفاضلة وأهلي فجأة وجدت نفسي أصغي باهتمام من مبدأ أن الوشوشة تحمل ورائها حديثا ممنوعا ولذا يصير جديرا بالاستماع. كان الموضوع أن الكتاب الذي أقرأه غير مناسب وكيف يسمحون لي بمثل هذا النوع من القراءة. وعندما لم تشعر السيدة بتفاعل أهلي معها قالت لتصدمهم أكثر "قد يكون فيها قصص حب!"
لا أريد أن أشرح فوائد القراءة هنا ولكن ثقوا بي أن كل الدراسات والأبحاث تثبت ذلك. ولكن لن نستطيع أن نزرع حب القراءة في الأطفال والمراهقين إذا أمرناهم بقراءة كتب عائلة قطب أو تقي الدين النبهاني وأصدقائه أو بقراءة مؤلفات ماركس وأصدقائه. أعطهم كتبا عن الأرواح والجن لتجذبهم للقراءة (هذه أعرفها أكيد). أعطهم قصص فيها جرائم وتحقيق للبحث عن الجاني (وهذه اعرفها أيضا من "مرحلتي البوليسية") حيث تجذبهم الحبكة ويصيروا مهتمين بسيكولوجية شخصيات القصة لمحاولة كشف الحل. أهم شيء... أعطهم ما يريدون هم قراءته!
عندما كنت مرة مع أختي في المكتبة هي وأولادها المراهقين واستشارتني عندما طلب منها ابنها رواية فيها مصاصين دماء وذئاب بشرية قلت لها "دعيه يشتريه ويقرأ ما يريد ونحن سنتسلى عندما نراه لا يستطيع أن يقرأ إلا وهو في الصالون بين أهله من خوفه." كنت في مراهقتي مدمنة على روايات أجاثا كريستي وكانت كلها عن جرائم وألغاز وتحقيق حتى الوصول إلى الجاني. وكان وجه أمي ينقبض عندما تراني أقرأ هذا النوع من القصص. أتفهم تكشيرتها الآن لأنها كانت تحب الحياة والجمال بطبعها، ولكن والدي كان لا يقول أبدا "لا" عن أي كتاب نريده لأنه هو نفسه بدأ رحلته مع حب القراءة مع قصص الفرسان الثلاثة وأصبح قارئا لا يفارقه الكتاب. وحتى عندما منعته المخابرات السورية من السفر مرة، وطلبته للتحقيق والمراجعة أياما متوالية، كان يذهب ومعه حقيبة كتبه ليقرأ في وقت الانتظار الطويل مع أنه كان لا يعلم يقينا إن كان سيعود من التحقيق.&
تعلمت من والدي ألا نخاف من القراءة. هل سمعتم في حياتكم إن هناك عائلة مسكينة كان ابنهم مولعا بالقراءة فأصبح عضوا في عصابة، أو أن ولدا آخر كان مهووسا بالكتب فأصبح مدمن مخدرات، أو أن بنت تلك العائلة كانت تقرأ بنهم ففشلت في دراستها؟! على العكس، عدم القراءة وكثرة الفراغ هي التي تؤدي إلى هذه النتائج الكارثية. مع أنواع الكتب المثيرة وذات الجاذبية والصور الجميلة بالكاد نستطيع أن نخوض المعركة ضد الألعاب الإلكترونية وضد التلفاز وضد تضييع الوقت في الهراء. ولكننا يجب ألا نستسلم. فهؤلاء أولادنا ومستقبلنا وحب القراءة يجب زرعه بمهارة مثل الطعم الذي عندما يتلقفونه سيعلقون به.& قلت من مدة لأولادي وبكل حماس وبأكبر ابتسامة عندي "هيا بنا إلى المكتبة لنحضر بعض الكتب لتتسلوا بها". ردوا لي حماسي بنظرات باردة ولم يعذبوا أنفسهم ليردوا على الابتسامة. ولكننا ذهبنا إلى المكتبة وعدنا ونحن نحمل كيسا من كتب الأطفال. بعد قليل دخلت غرفة الصالون لأرى التلفاز صامتا والأولاد كلهم بدون استثناء قد اختفت وجوههم خلف كتبهم الملونة الجميلة ولا تظهر سوى أطراف اصابعهم الصغيرة على الكتب. وضعت يدي على قلبي حتى لا ينفجر من الفرحة ثم فعلت ما يفعله أي أم أو أب في لحظة فخر بأولادهم—أخرجت هاتفي الجوال وأخذت صورة.
قال ستيفن كينغ، الكاتب الأمريكي الشهير، إنك إن كنت تحب القراءة فيجب أن تتقبل الواقع لأنك ستصبح شخصا غريبا عن باقي المجتمع وستضطر للتخلي عن الكثير من الأتكيت الاجتماعي. عندما قرأت ذلك عرفت أنه يتحدث عني. وأعرف أنه يوجد الكثير منكم أيها المجانين الذين تحبون الكتب والقراءة وتختبئون بين الناس وتتظاهرون بأنكم أناس طبيعيون ولكن أستطيع أن أتخيل الكتاب في حقيبتكم أو معطفكم يرافقكم حيثما ذهبتم.
&