من مفكرة سفير عربي في اليابان

كعضو شرفي بنادي صحافة الأجانب بطوكيو، حضرت ندوة بعنوان، quot;ياسكونيquot; وأزمة العلاقات اليابانية مع اسيا. وقد لفتت تشابكات هذه القضية نظري للحوار الذي يجري في مملكة البحرين، للوصول لاتفاق يحافظ على مملكة البحرين مملكة دستورية عصرية متطورة، لتحقق لشعبها التنمية المستدامة، والاستقرار، والسعادة، والازدهار. وقد أحببت أن أشارك عزيزي القارئ نقاشات هذه الندوة، للتعرف على كيفية تتعامل حوارات شعوب اسيا مع خلافاتها. وقد شارك في هذه الندوة البروفيسور سفين سالار، الاستاذ بجامعة صوفيا، مع الباحث بالمركز الالماني للابحاث اليابانية، كريس ونكلير، والبروفيسور الياباني، كازوهيكو توجو، الاستاذ بجامعة كيوتو سانجيو، وهو حفيد وزير الخارجية الياباني، شيجينورى توجو، في فترة الحرب، والذي عارض الحرب ودفع لوقفها، وحكم عليه بالسجن عشرين عاما في محكمة الحلفاء، وتوفي وهو في السجن.
وليسمح لي عزيزي القارئ بمقدمة تاريخية لفهم معضلة quot;ياسكونيquot;. تعتبر ديانة الشنتو، إن صح التعبير، العقيدة الروحانية الاصلية للشعب الياباني، وتجمع طقوس دقيقة، والتي تؤدي لربط اليابان المعاصرة بتاريخها القديم، والتي بدأ في عام 660 قبل الميلاد. وقد برزت طقوس الشنتو مكتوبة في القرن الثامن في مؤلفين تاريخيين وهما quot;كوجوكيquot; و quot;النيهون شوكيquot;، ويجمعان مجموعة من الفلوكلور، والتاريخ، والأسطورة. وتعرف quot;الشنتوquot; اليوم، من خلال عدة أضرحة على شكل معابد من الخشب، تعبر عن معاني مختلفة، كذكرى شهداء الحرب، ومهرجانات الحصاد، وشخصيات يابانية تاريخية مهمة. وترجع كلمة quot;الشنتوquot; لأصول الكتابة الصينية، والتي تجمع بين كلمة quot;شوquot; أي quot;كاميquot; وتعني الروح، وكلمة quot;توquot; وتعني طريق الفلاسفة. وتعرف quot;الكاميquot; في اللغة الانكليزية بالروح، أو الجوهر، أو قوة مقدسة ربانية فائقة فوق البشر والطبيعة، والتي تعتقد بأن ميثولوجيتها حقائق، والذي يستطيع أن يتواصل معها المؤمنين بها، وتبرز هذه المثيولجيات على شكل صيغ بشرية مختلفة، وأحيانا على صيغة مخلوقات ومكونات الطبيعة. وتعتبر عقيدة الشنتو quot;الكاميquot; والبشر كوحدة متكاملة، وتعيش في الوجود، وتشارك، وتتداخل في شبكاتها المعقدة.
ويجمع اليابانيون بين الشنتو والبوذية، مع انهم يعتبرون أنفسهم عادة غير متدينين. فيزور الياباني ضريح الشنتو للاحتفال بولادة طفله، بينما تتم ترتيبات الوفاة في المعابد البوذيه. ويعتبر الضريح، المعبد الذي يحتضن روحانية quot;الكاميquot;، والذي قد يمثل امبراطور ياباني، أو زعيم خدم اليابان، أو جبل عظيم، أو أي شكل اخر من اشكال الطبيعة. ويوجد عادة هذا الضريح في وسط غابة جميلة، ويضم مبني خشبي، وبدون أية مادة مصنعة كالمسامير أو الصمغ. فجميع أجزاء هذا المبني مصنوع، عادة، من خشب اشجار المعبد ونباتاته، ويوجد في وسطه غرفة خشبية مغلقة، بها مرآة معدنية، تعكس صدى روح الكامي، الذي يزورها باستمرار. ويوجد في اليابان ما يقارب المائة الف ضريح شنتو، وعدد قريب من ذلك للمعابد البوذية.
وفي بداية التاريخ الياباني، وفي فترة ما سمي بي quot;يايوئيquot; عكس اليابانيون تواجد الروح في الطبيعة بظواهرها في الرياح والزلازل والأمطار. بل كانوا يعتقدون بأن الحيوانات لديها قوة روحانية، فالروح التي تعطي الحياة للبشر تأتي من الطبيعة، ولا تموت مع موت الإنسان بل ترجع للطبيعة بعد الممات، لتحوم بين الغابات، والأنهار، ومنازل الأهل. ولذلك ففي الثقافة اليابانية روح الاسلاف مقدسة، وكانت قديما تقوم مجالس القرى بالرجوع لأرواح الاسلاف للنصيحة، بل طوروا ادوات خاصة لجلب quot;الكاميquot;، وارواح الاسلاف، وإعطوهم المساحة الخاصة بهم. وقد كانت تعقد مجالس القرى في مواقع هادئة، على سطوح الجبال، او في عمق الغابات، وبقرب شجرة كبيرة، أو حصاة ضخمة، لتتحول هذه المواقع مع الوقت الى اضرحة مقدسة.
كما بدأت تتحول هذه الاضرحة مع الحياة الزراعية، إلى اضرحة مؤقتة، للتبرك بها لزيادة محاصيل الزراعية، ومع الوقت تطورت لمواقع دائمة، على شكل اكواخ صغيرة. ومع دخول البوذية من الصين، من خلال كوريا إلى اليابان، تطورت هذه الاكواخ ألى أضرحة خشبية دائمة، بعد أن شيدت بقرب الكثير من المعابد البوذية، وعرفت باضرحة المعابد. وقد قاومت هذه الاضرحة اية تغيرات صناعية، فحافظت على طرق تشيدها القديم، كما حاولت ان تحافظ على مهارات تشيدها بتغير موقع بنائها كل عشرين عاما. ويعتبر ضريح quot;ايسهquot; الضريح الذي يخلد إلهة اليابان الابدية، الهة الشمس. كما أن من أشهر اضرحة اليابان هو ضريح quot;اليسكونيquot;، والذي خلق أزمات سياسية كثيرة، بزيارة رؤساء الحكومات اليابانية له بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وخاصة مع القيادات الصينية وكوريا الجنوبية المتحسسين جدا ضد زيارة ضريح يسكوني. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: ما سر الغضب الصيني الكوري من زيارة مسئولي الحكومة اليابانية لضريح اليسكوني؟
تعني كلمة quot;يسكونيquot; في اللغة اليابانية، خلق أمة مسالمة. وقد شيد ضريح يسكوني في عام 1869 من قبل الامبراطور عصر الحداثة والتنوير في اليابان، الامبراطور ميجي، وذلك لأحياء ذكرى الاموات الذين ضحوا بحياتهم لخدمة الامبراطور، في حرب البوشن ضد لوردات الحرب quot;التوكوجاواquot;، لارجاع مركزية الحكم للديوان الامبراطوري. وقد ضم مع الوقت هذا الضريح ما يقارب المليونين والنصف من اليابانين الذين قتلوا منذ حرب البوشن في عام 1868، وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية. كما شيد بجانبه ضريح، روحانية السلام، ليحي ذكري ضحايا حروب العالم اجمع. ويضم الضريح متحف حربي، يشرح التاريخ الياباني من فترة تنصيب الامبراطور ميجي في عام 1868، وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية. وقد سجلت بعض الدول اعتراضها على زيارة قيادات الحكومة اليابانية لهذا الضريح، لكونه يحي أيضا ذكرى من حوكموا من قبل محكمة الحلفاء كمجرمي حرب، بعد الحرب العالمية الثانية.
فقد اضافت الحكومة اليابانية في عام 1978 إلى قائمة شهداء الحروب في ضريح ياسكوني، قيادات الحكومة اليابانية أبان الحرب العالمية الثانية، الاربعة عشر، الذين حكمت عليهم محكمة الحلفاء كمجرمي حرب من الدرجة quot;ألفquot;. وقد زار رؤساء الحكومة اليابانية سنويا هذا الضريح حتى عام 1984، فثلاثة رؤساء الحكومة زاروا الضريح 20 مرة بدون أي اعتراض من الصين. ولكن حينما قام رئيس الحكومة السيد يوسوهيرو ناكاسوني، في عام 1985، بزيارة رسمية ليسكوني، وغطى الاعلام الياباني بشكل مثير هذه الزيارة، حولت الصين هذه الزيارة لقضية دبلوماسية جادة. وقد قام رئيس الوزراء الياباني الحالي، شنتو أبيه، في 26 ديسمبر من العام الماضي، بزيارة يسكوني، وقد كانت هذه الزيارة قنبلة دبلوماسية مفاجئة.
ويعتقد البروفيسور بأنه قد كانت هذه الزيارة مخيبة للامال، كما تمت هذه الزيارة في ظروف دبلوماسية صعبة. فهناك ارهاصات مخيفة من دخول السفن الحربية الصينية أسبوعيا للمياه المحيطة بجزر سيناكاكو-دايو، التي سيطرت عليها اليابان، والتي تعرض المنطقة لمجابهة عسكرية صينية يابانية خطيرة، والذي يبدو بأنه ليس هناك حل للوقاية من هذه الخطر المحتمل غير الردع العسكري أو الحوار السلمي. كما أن جهود حكومة quot;أبيهquot; لزيادة قوة الردع العسكري، بزيادة ميزانية الدفاع، واستراتيجة أمنية وطنية، وبرنامج دفاعي وطني، ومراجعة تفسير المادة التاسعة من الدستور الياباني، التي تحضر الحرب الهجومية، تستحق الدراسة، ولكنها تحتاج أيضا لمشروع حوار جاد. ومع أن quot;أبيهquot; يكرر بأن ليس هناك خلاف حدودي مع الصين وباب الحوار مفتوح، ولكن لم يترافق ذلك بجهود جدية للدفع بعملية الحوار. وفي الوضع الذي قد تكون المواجهة العسكرية ليست مستحيلة، يجب تجنب أية محاولة استفزازية وبأي ثمن، للعمل على زيادة الثقة بين الطرفين، والتي هي مهمة جدا للدفع بعملية الحوار.
وقد ارسلت الولايات المتحدة اشارات لليابان بأن لا تستفز الصين، كما أن زيارة وزير الخارجية الامريكي جون كيري ووزير الدفاع شك هاجل لمقبرة الجندي المجهول في الثالث من شهر اكتوبر الماضي، هي علامة quot;غامضةquot; لمنع اليابان بالدفع لأية عملية استفزازية. وحينما عبرت الولايات المتحدة عن زيارة أبيه ليسكوني بتعبير quot;المخيبة للامالquot;، فهي أشد لغة دبلوماسية استخدمتها لحليفها، لإيصال شعور السخط والإحباط. وقد تدفع زيارة quot;أبيهquot; لتسائل الشعب الامريكي: هل يجوز أن تضحي الولايات المتحدة بشبابها لكي تدافع عن دولة quot;عاجزةquot; تستفز الصين، بالرغم من تكرر الانذارات الأمريكية لها؟ وفي هذه الحالة التي تعرض الحكومة بلدها للحرب مع الصين، فقد يكون تعبير خيبة الأمل الأمريكية تعبير quot;انتحاريquot; لليابان. كما أن كوريا الجنوبية أبدت امتعاضها الشديد، وستكون مسئولية الحكومة إرجاع العلاقات اليابانية الكورية لمواقعها الصحيحة، ومع الأسف زيارة اليسكوني تبعد امكانية تحقيق هذا الهدف.
ويعتقد البروفيسور بأن زيارة اليسكوني قد تعرض أيضا تحسن العلاقات اليابانية الروسية للخطر، والتي هي مهمة لتطوير العلاقات الاقتصادية، وحل أزمة الجزر الشمالية. وقد كان ذلك واضحا في تعليق وزير الخارجية الروسي في 26 من ديسمبر، بأن هذه الزيارة لا تثير ألا الشعور بالاسف، وبأنها تخالف نتائج الحرب العالمية الثانية التي قبلها العالم أجمع.. ولا شك بان هذه الزيارة اضعفت مواقف المسولين المؤيدين لتطوير العلاقات اليابانية السوفيتية، كما اضعف موقع اليابان في محادثاتها مع الروس على الجزر الشمالية. وإن أدت هذه الزيارة لوقف العمل لحل النزاع الحدودي الياباني الروسي، سيكون التعبير عن الاسف لا يمكن حتى التعبير الحقيقي عنه.
ويعلق البروفيسور بأن زيارة quot;أبيهquot; ليسكوني أدت لتطويق الصين وكوريا وروسيا ومع الولايات المتحدة في حلقة الذكريات التاريخية للحرب. وقد تكون هذه القائمة أكبر لتضم الدول الاوربية وباقي الدول الاسيوية التي تعرضت لدمار الحرب. ويبقى السؤال: ما الذي تستطيع اليابان عمله لهذا التراجع المخيب للامال؟ ففي المستقبل القريب، وهناك اختيارات سياسية قليلة، فعلي اليابان قبول موقعها الدبلوماسي، وعليها التعامل بحكمة مع أي صعوبات غير محتملة. واما على المدى البعيد قد يستطيع رئيس الحكومة اليابانية أن يساعد الشعب الياباني للوصول إلى توافق على تاريخه، بحيث أن يشمل وقائع ما قبل، وما بعد الحرب، بالإضافة للمسؤوليات أبان فترة الحرب. وهل يمكن أن تكون هذه الاماني واقعية مع حكومة السيد أبيه؟ فعلينا أن ننتظر المستقبل.
كما عرض المحاضر تجربة رئيس الوزراء السابق جونشيرو كويزومي في بدايات العقد الماضي بزيارة ضريح اليسكوني، حينما علق بأن الصعود الصيني فرصة لليابان، وليس تحدي، وأكد بأنه نادم على التاريخ الياباني خلال الحرب العالمية الثانية، وزيارته للياسكوني ليست إلا احترام ضحايا الحرب، والدعوة للسلام، وبدون النية لتبجيل الماضي. وفي نفس الوقت يصر كويزومي بأن ندب موتى الحرب هي موضوع عاطفي شخصي، وليس من حق أحد، وحتى الحكومات الاجنبية التدخل فيه، ويجب ألا يستخدمها أحد كورقة دبلوماسية. وتتفق معه بعض القيادات اليابانية بأن هذا الخلاف لن يحل إلا حينما تغير الصين رأيها في الموضوع، بل تعتقد بأن الصين تستخدمها كورقة دبلوماسية لتسجيل نقاط. فتلاحظ عزيزي القارئ بأن معضلة اليسكوني معضلة خطيرة ومعقدة في الدبلوماسية اليابانية، مع وجود طرفيين أحدهما معتدل والآخر متطرف. ويبقى السؤال: كيف ستتعامل حوارات الشعب الياباني مع هذه المعضلة، للمحافظة على انجازاته التكنولوجية والاقتصادية وتمنع تكرار مجابهة حرب كارثية؟ وهل ستستفيد مملكة البحرين من هذه التجربة لتحقق حوار توافق وطني متناغم يحقق لمملكة البحرين الامن والاستقرار والإزدهار، ولشعبها السعادة والثراء والرخاء؟ و لنا لقاء.

د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان