لينا الشوابكة من عمّان: أذكر مقابلة أجرتها المذيعة الأميركية المشهورة "أوبرا وينفري" قبل أكثر من 15 عاماً، استضافت خلالها امرأة في الخمسينيات من عمرها تعاني من مشكلة ما زلت أذكرها لشدة غرابتها.
كانت المرأة تعاني من سماع صوت طنين متواصل في إحدى أذنيها، شبّهتهُ بصوت القطار. مازلت أذكرها تماماً، وأذكر الخوف الذي كان ينبعث من عينيها. شرحت حينها معاناتها مع هذا الصوت، وكيف أن رعايتها لأولادها وإنجازها لمهامها بات مستحيلاً مع وجوده واستمراره.
الحالة التي كانت تُعاني منها هذه المرأة هي "الطنين"، وتنجم عن حدوث تغيرات في كيفية مرور الدم عبر الأوعية الدموية.
من يسكن غزة اليوم، قادر على فهم ما مرت به تلك المرأة، فصوت المسيّرات الذي يكاد لا يغيب عن سماء القطاع، يُشبه إلى حد كبير الصوت الذي كانت تصفه المرأة، والذي اصطلح أهالي غزة "صوت الزنانة" لوصفه.
ما هي "الزنّانة"؟
ما يُسميه الفلسطينيون "زنّانة"، هي طائرات استطلاع إسرائيلية تكاد لا تُرى بالعين المجردة، تقوم بمهمات التصوير والتعقب للأهداف المختلفة. وليس هذا فحسب، بل لجأت إليها القوات الإسرائيلية في تنفيذ عمليات استهداف داخل قطاع غزة ما تسبب بوقوع قتلى بحسب هيومن رايتس ووتش، التي قالت إن هناك إساءة في استخدام "الزنانة" من قبل الجيش الإسرائيلي.
وظهرت طائرة "الزنّانة" أول مرة في الجيش الإسرائيلي عام 1969 حين استخدمها لالتقاط بعض الصور من أهداف في الأردن ومصر، وتم استخدام هذه الصور في حرب عام 1973. وكذلك كان لهذه الطائرات دور في اجتياح لبنان عام 1982.
من بين المسيرات الهجومية الأضخم لدى إسرائيل، هي "آي إيه آي إيتان"، وهي طائرات بإمكانها الطيران لمدة تصل إلى 36 ساعة متواصلة، بسرعة 370 كيلومتر في الساعة، وعلى ارتفاع يصل إلى 45 ألف قدم.
ويُعتقد أن النسخة الأكبر والأقوى منها هي مسيّرة "هرميس 900" التي استخدمها الجيش الإسرائيلي أول مرة في حربه على غزة عام 2014، ثم دخلت الخدمة رسمياً في الجيش عام 2017. وفي الحرب الجارية على القطاع، أعلنت كتائب القسام أنها تمكنت من إسقاط إحدى هذه المسيّرات بصاروخ مضاد للطائرات شرقي مدينة غزة.
وفي عام 2005 تمكّنت إسرائيل من تطوير طائرة أُطلق عليها اسم "هيرون"، وهي طائرة تم بيعها للعديد من الدول حول العالم، ومنها الولايات المتحدة الأمريكية والبرازيل.
أما "طائرة كتمام"، التي صممتها إسرائيل عام 2016 بعد تطويرها للبقاء في الجو عدة أيام متواصلة، فوصفها الخبير التكنولوجي الإسرائيلي مئور فريد في إحدى مقابلاته التلفزيونية بقوله: "إنها عيوننا في غزة"، وأوضح أنها تستطيع القيام بثلاث مهام، وهي: تزويد المعلومات، توجيه القوات في الميدان، والقصف أو التفجير.
هذه الطائرات المسيرة التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي، تحدث عنها موقع مستقل متخصص بنشر القدرات العسكرية والدفاعية لعدد من الدول، من بينها إسرائيل.
وعندما تواصلنا مع الجيش الإسرائيلي للتعليق على المسيّرات التي تمتلكها إسرائيل ومدى فعاليتها وألية استخدامها، أجاب بـ"لا تعليق".
ومع تعدد المسيّرات بأنواعها ووظائفها، إلا أن صوتها واحد.
كيف يصف سكان غزة "الزنّانة"؟
منذ بداية الحرب في غزة، حاولت التواصل مع أكبر عدد ممكن من أهالي القطاع للحصول على مقابلات أو تعليقات حول ما يجري هناك. وتقريباً في كل مرة كنت أتحدث فيها عبر الهاتف إلى أحدهم، كنت أطلب منهم أن يدخلوا إلى منازلهم أو خيامهم حتى أتمكن من سماع صوتهم من دون الطنين في الخلفية. كان بعضهم يضحك ويقول: "حتى لو دخلت إلى المنزل، سوف تسمعينه لا محالة".
يقول شعبان - العالق حالياً في رفح - لبي بي سي: "تُسيّر إسرائيل ما يزيد عن 10 طائرات في كل مربع سكني صغير على ارتفاعات منخفضة جداً وتصدر أصواتاً مزعجة تتسبب في ضغط نفسي وعصبي، ونحن نعتبره نوعاً من أنواع العقاب الجماعي، حتى الأطفال يواجهون صعوبة في النوم من شدة ارتفاع الصوت".
ويضيف: "نشعر بأننا مراقبون وملاحقون طوال اليوم. و في الآونة الأخيرة استخدم الجيش الإسرائيلي هذه الطائرات لأغراض إطلاق الرصاص والقذائف على امراة بدون أي سبب، تشعر وكأن الاستهداف على مزاج من يتحكم بها".
هذه "المعاناة" يمكن رصدها كذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي حينما تكتب كلمة "الزنانة" على موقع "إكس"، حيث ستجد تعليقات على مدار اليوم لغزيين يشتكون منها ومن صوتها.
أما كريم جودة - الغزّي الذي نزح من الشمال إلى مدينة رفح - فحاول شرح معاناته لبي بي سي مع "الزنّانة" وصوتها في هذا الفيديو الذي أرسله لنا من قطاع غزة.
الحرب النفسية - "تعذيب دون لمس"
يقول الخبير العسكري العميد هشام جابر لبي بي سي، "إن صوت طنين الطائرات المسيّرة المرتفع يُحدث إرباكاً ويُشكل مصدر توتر لجميع من يسمعه، ويُعد جزءاً من حرب نفسيّة تحاول إسرائيل ممارستها ضد سكان غزة".
وشاع استخدام مصطلح "الحرب النفسية" خلال الحرب العالمية الثانية، ومن بين أولى التعريفات للحرب النفسية في الجيش الأمريكي، التعريف القائل إنها "استخدام أي وسيلة بقصد التأثير في الروح المعنوية، وعلى سلوك أي جماعة لغرض عسكري معين".
وتلجأ بعض الدول إلى استخدام أسلوب "التعذيب بالصوت". إذ يتم اختيار الموسيقى لتكون صاخبة أو رتيبة إلى حد الملل. وميزة هذا النوع من التعذيب أنه لا يترك أي أثر على السجين أو المُعذَّب، قبل أن ينهار تماماً دون أن يستطيع الادعاء أنه تعرّض للتعذيب (تعذيب دون لمس).
تقول اختصاصية علم النفس الدكتورة فداء أبو الخير لبي بي سي: "علمياً، يُعتبر الصوت الذي يصدر عن الزنانة أحد أساليب التعذيب، لما يسببه من هلع وخوف لدى الكبار والأطفال".
وتضيف: "صوت الزنّانة يخلق مشاكل نفسية معقّدة، نظراً لعدم انقطاعه على مدار أشهر طويلة، ما قد يتسبب بحدوث نوبات هلع فجائية وتبول لا إرادي، وأرق. ومن الممكن أن تظهر المشاكل في المستقبل وليس بالضرورة خلال الحرب، وقد تتحول إلى ما يُعرف باضطراب ما بعد الصدمة، وحالة من القلق الدائم، وشعور بعدم الأمان ما يخلق مزاجاً سلبياً، وتوقعاً بحدوث الأسوأ دائماً، بالإضافة إلى الخوف من المستقبل والموت."
هل تمتلك حماس طائرات "زنّانة"؟
في تاريخ 26 فبراير/شباط 2003، كان الإعلان الرسمي الأول لكتائب عز الدين القسام - الجناح العسكري لحركة حماس - عن تدشين مشروع إنتاج الطائرات المسيّرة القتالية.
حينها نعت كتائب القسام القيادي نضال فرحات وخمسة من رفاقه، والذين قُتلوا في عملية اغتيال مدبرة وفق بيان الكتائب، إذ فخّخت المخابرات الإسرائيلية أجزاء من طائرة كانوا يعملون على تجهيزها.
وبعد قرابة عامين على مقتله، دشنت دائرة العمل العسكري لحركة حماس في الخارج عام 2005، مشروع "الطائرات بدون طيار"، وبدأت خطوات حثيثة على الأرض لتطوير النماذج الأولى، والتي تولى قيادتها مهندس تونسي وهو محمد الزواري، ومهندس من غزة وهو محمود فارس.
وبحلول عام 2008، تمكن الزواري وفريقه من إنتاج 30 طائرة مسيرة لكتائب القسّام، حملت اسم "أبابيل".
وفي عام 2014، وتحديداً في الحرب التي سُميت بـ"العصف المأكول"، أطلقت كتائب القسّام "طائرة أبابيل 1" المُسيَّرة، وحلقت فوق وزارة الحرب في تل أبيب لتلتقط صوراً عدّة ونشرت بعضاً منها، في حين قالت إنها تحفظت على الجزء الأكبر منها نظراً لـ "حيوية الصور"، على حد تعبير كتائب القسام حينها.
ومنذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، تستمر الحرب في قطاع غزة رداً على هجوم نفذه عناصر من حركة حماس على بلدات إسرائيلية في منطقة غلاف غزة، إذ تقول السلطات الإسرائيلية إن 1200 شخص قتلوا خلال ذلك الهجوم، فيما قالت وزارة الصحة في غزة إن أكثر من 34 ألف فلسطيني قتلوا في قطاع غزة خلال النصف سنة الماضية.
التعليقات