لا وجود لعقدة اردنية، أقلّه على المستوى الملكي. لا تتحدّث الاردن بلسانيين ولا تخفي توجاهتها على أحد، لا على الصديق ولا على من يضمر شرا بالمملكة. هناك في هذه الايّام مفاوضات فلسطينية- اسرائيلية تستهدف التوصل الى تسوية بين الجانبين. هناك ايضا دور أميركي فاعل يتولاه وزير الخارجية جون كيري الذي زار المنطقة ما يزيد على عشر مرّات خلال فترة قصيرة من اجل تحقيق انجاز بين الفلسطينيين والاسرائيليين في غياب قدرته على تحقيق أي تقدّم في الملفات الأخرى التي يتولاها.
على رأس هذه الملفات الأخرى، تأتي الحرب التي يشنّها النظام السوري على شعبه منذ ثلاث سنوات تقريبا والتي يبدو أنّها ستنتهي بتفتيت للبلد. يظهر أن ادارة أوباما مع هذا الخيار ويظهر أن وزير الخارجية كيري لا حول له ولا قوّة نظرا الى أن حدود صلاحياته في شأن الموضوع السوري باتت معروفة. يستطيع الادلاء بتصريحات، قد تكون ذات لهجة تصعيدية أحيانا، الّا أنّه ليس مسموحا له بالذهاب الى أبعد من ذلك في مجال حمل النظام على وقف المجزرة التي يرتكبها في حقّ شعبه!
ليس سرّا أن المملكة الاردنية الهاشمية تتضرّر يوميا جراء الحرب الدائرة في سوريا. هناك مئات آلاف النازحين السوريين في الاردن التي تعاني أصلا من شحّ في الموارد والمياه. هناك أزمة انسانية ضخمة تسبب فيها اللاجئون السوريون. يضاف الى ذلك مشكلة مرتبطة بالارهاب والجماعات المتطرّفة التي يمكن أن تتسلل الى الاراضي الاردنية. معظم هذه الجماعات مدفوع من النظام الساعي دائما الى تصدير أزماته الى المحيط السوري وخلق المشاكل لجيرانه...باستثناء اسرائيل طبعا!
في هذه الظروف المعقّدة، جاءت زيارة الملك عبدالله الثاني للولايات المتحدة واللقاء الذي عقده مع الرئيس باراك اوباما في كاليفورنيا. ليس أمام الاردن سوى شرح قضيته والدفاع عنها من جهة ومحاولة معرفة ما يدور في خلد الادارة الاميركية من جهة أخرى. حصل عبدالله الثاني على مساعدات أميركية يمكن أن تساهم في تخفيف الاعباء السورية عن المملكة. هذا انجاز في حدّ ذاته، يساعد في مواجهة الازمة الناتجة عن تدفق اللاجئين السوريين.
الاهمّ من ذلك، تأكيده أن الاردن معنيّة بكلّ المواضيع المرتبطة بحلّ نهائي بين الفلسطينيين والاسرائيليين. الاردن معنيّة بموضوع اللاجئين ومعنية بالقدس والمحافظة على مقدّساتها ومعنيّة بحدود الدولة الفلسطينية التي يمكن أن تلد يوما وبأمن الحدود بين المملكة الهاشمية وهذه الدولة، خصوصا أن اسرائيل تتطلع الى وجود عسكري في الاغوار.
في النهاية، تبحث الاردن عن حلول. هناك رغبة اردنية في تسهيل الحلول والتوصل الى اتفاق نهائي على أساس خيار الدولتين. مثل هذا الاتفاق يعني أوّل ما يعني قطع الطريق على خيار quot;الوطن البديلquot; الذي يوجد في اسرائيل من لا يزال ينادي به من منطلق أن الاردن هي الدولة الفلسطينية...
عندما يتعلّق الامر بمسائل مصيرية، لا يعود امام الاردن من خيار غير الذهاب بعيدا، أي الى النهاية، في الدفاع عن مصالحها العليا ومصالح الاردنيين، خصوصا أن أكثر من أربعين في المئة من سكّان المملكة من الفلسطينيين الذين نزحوا اليها على دفعات وبينهم من لا يزال في مخيمات للاجئين منذ العام 1948 أو 1967. فالاردن معنيّة بأيّ تسوية وتعمل من أجل تسوية حقيقية عادلة وترفض في الوقت ذاته أن تكون التسوية على حسابها في أيّ شكل.
ما يفعله الملك عبدالله الثاني يتمثّل في الدفاع عن الاردن ومصالح الاردنيين. لم تقتصر زيارته للولايات المتحدة على لقاء مع أوباما، بل شملت شخصيات أميركية والمسؤولين الكبار في الادارة والكونغرس. كذلك التقى ممثلي المجموعات العربية الفاعلة وممثلين عن المنظمات الاميركية اليهودية. وهذه المنظمات تمتلك نفوذا كبيرا داخل الولايات المتحدة نفسها وفي اسرائيل حيث توجد أصوات تهاجم بقوّة وزير الخارجية الاميركي والافكار التي يطرحها في شأن التسوية. وقد يكون بعض هذه الافكار، استنادا الى ما تسرّب حتى الآن، جيّدا ومعقولا الى حدّ ما.
لا شكّ أن الاردن، بقيادة عبدالله الثاني، تقاوم على غير جبهة. ولا شكّ ايضا أن الاوضاع في المنطقة تدعو، في ضوء التعقيدات الناجمة خصوصا عن الازمة الدائرة في سوريا، الى التمهّل والتروي. ليس كلّ يوم يوجد وزير للخارجية الاميركية على استعداد لبذل كلّ هذا الجهد من أجل تحقيق تسوية على أساس خيار الدولتين.
ما مرّت به الاردن من تجارب في الماضي القريب، يجعل عبدالله الثاني قادرا على الدفاع عن المصالح العليا للملكة. ولذلك ليس مطلوبا من الداخل الاردني أكثر من وضع حدّ للمزايدات والكلام المضحك- المبكي عن مشروع كيري. اذا كان هذا المشروع يتعارض ومصالح الاردن والفلسطينيين، سيكون حتما مرفوضا من القيادة. لا حاجة الى خطابات رنانة ولا الى شعارات وتصرّفات من نوع تلك التي تذكّر بالسبعينات من القرن الماضي والتي ركّزت على رفض مشروع روجرز. من يتذكّر مشروع وليم روجرز، وزير الخارجية الاميركي وقتذاك، والذي قبل به جمال عبدالناصر قبيل وفاته وراح الفسلطينيون يهاجمونه عن طريق مسيرات صاخبة في شوارع عمّان؟
بعض الهدوء ضروري، حتى يمكن القول أن قسما من الفلسطينيين ومعهم الاخوان المسلمين وبعض الشخصيات الاردنية التي اكتشفت الوطنية حديثا، تعلّموا شيئا من الماضي ومآسيه. فقد أثبتت التجارب أن الملك في الاردن يعرف تماما ما الذي يجب عمله وماذا ينفع الفلسطينيين والاردنيين وماذا يضرّهم. فالوقت ليس وقت المزايدات والشعارات الطنّانة والدعوة الى الجهاد. الوقت وقت التفكير في العمق في كيفية الافادة من طرح كيري، في حال كان ذلك ممكنا.
من يحتاج الى دروس في التاريخ، يستطيع العودة الى العام 1970. هل كان القبول بمشروع روجرز مصلحة عربية وفلسطينية أم لا؟ ماذ كانت نتيجة المزايدة على عبدالناصر نفسه في تلك المرحلة؟ الم يذهب الفلسطينيون الى كارثة جديدة في تاريخهم الذي لا تنقصه كوارث؟