قال لي أحد الأصدقاء في المعتقل ذات مرة، إن بعض المعتقلين معنا لا يستحقون مرارة السجن! وأدركت لاحقاً ما يقصد، فالقيد الذي يأسرنا ويشتد على معصمينا، إنما يزيدنا عمقاً في استشفافنا قيم الحرية، فمن ليس بوسعه بلوغ ذلك الفهم والقيود تعتصر روحه داخل أسوار المعتقل سيبقى استيعابه لها خارج الأسوار قاصراً.

عامان ونكمل مائة عامٍ من الأسر، حيث نقضي حكماً تعسفياً منذ سايكس-بيكو 1916 ولولا الأخيرة وملحقاتها في لوزان 1923 لكان لدينا نحن الكورد دولة كغيرنا، وأخشى، لو أننا امتلكناها آنذاك، أن نالت دولتنا quot;كوردستانquot; صيتاً لا يختلف كثيراً عن صيت أفغانستان وباكستان وأن ننول نصيبنا من تنظيمات القاعدة وطالبان، خصوصاً وأننا قبل قرنٍ من الآن لم نكن أفضل حالٍ من غيرنا، مجموعاتٌ متطوعة تنتظر الأوامر لتبدأ طغيانها، وهذا ما يفسر خروجنا من الحرب العالمية الأولى وأيادي بعضنا ملونةٌ بالموت الذي باركته دولة الأتراك آنذاك.

وكل الشعوب آنذاك كان بوسعها أن تتحكم بدولتها لكن ليس بإمكان كل الشعوب حتى يومنا هذا أن تحكم وأن تدير دولة، فالحكم المدني يتم بكدّ الذهن وإعمال الفكر أما التحكم الميداني ليس سوى استجماع القوة في خدمة شريعةٍ أو غريزة، وعندما يكون التحكم هوية الدولة تغدو الدولة سجناً بلا أفق تضيق بأهلها.

لقد شكلت الحرب العالمية الأولى بالنسبة لنا مدخلا جديداً إلى العالم عبر ثلاث زنزانات، عربية، تركية و فارسية، ولأن كنا قد خسرنا جزءاً من ذاكرتنا، صدمة سايكس-بيكو وحدها أعادت لنا الذاكرة بأن لنا لغة وتاريخاً وجغرافية تم اقتسامها، وهذه الصحوة نجحت بتبديل أولوياتنا وشخصت همنا القومي المعتقل، لنبدأ رحلة الكفاح مع طهران، أنقرة، بغداد ودمشق.

كغيرنا في السابق كنا نموت فرادى يريد كل منا أن يؤمن موته خلاص نفسه، أما في رحلتنا نحو العواصم الأربع فقد تعلقنا أكثر بالحياة وتعلمنا أن نعيش ما استطعنا وان نموت ما استطعنا على أن يكون موتنا في كل مرة ترخيصا جديداً نمنحه لوجودنا.

لقد ابتلع الطريقُ إلى الحرية كثيرين منا، الإيرانيون أعدموا القاضي محمد زعيم مهاباد واغتالوا د. عبدالرحمن قاسملو وصادق شرفكندي، واغتال الأتراك فائق بوجاغ ومظلوم دوغان واعتقلوا عبدالله أوجلان، السوريون جردونا الجنسية وقتلوا معشوق الخزنوي ومشعل التمو والعراقيون قتلوا ليلى قاسم وخنقونا جملةً بغاز الخردل.

بتنا شعباً أسيراً! نصبر على محنتنا صبر اضطرار، ولم يبق لدينا من ملجأ سوى الكفاح والاجتهاد، لقد حولنا تلك الزنزانات الأربع إلى شرفات نطل منها على العالم، عشنا حكاية الاشتراكية مع السوريين والعراقيين، وقصة العلمانية في تركيا، وكنا شهوداً على الطائرة الفرنسية التي أتت بملالي طهران، لقد بدا الأفق أكثر اتساعاً بالنسبة لنا عندما تمكنّا من العمل عبر أربع عواصم بينما الشعوب جميعها لها عاصمةٌ واحدة!.
في معتقلِ سايكس و بيكو التقينا بـ محمود درويش وناظم حكمت واسماعيل بيشكجي وعزيز نيسين ومحمد الماغوط ومحمد مهدي الجواهري، وأحببنا فيروز وعارف صاغ ومعين اصفهاني وناظم الغزالي، لقد جمعنا الفضل من أطرافه في هذا المشرق، ورضعنا الحضارة خلال مائة عام مضت من أثداءٍ ثلاثة!

قسوة سايكس-بيكو عجلت في ظهور شخصية quot;جكرخوينquot; التي ساهمت بشكل اساسي في تأسيس الوعي القومي لدى أكراد سوريا، وشخصيات مثل نور الدين زازا بهمن قوبادي وبلند الحيدري وسليم بركات ويلماز كوني وإبراهيم هنانو وخالد بكداش ويشار كمال وغيرهم، ومن نتائج سايكس-بيكو أيضاً أنه لم يظهر من بيننا quot;ظواهري ولا زرقاويquot;، حيث لم يبق لنا من دين الله سوى المعاملة.

إن تغييب دولة quot;كوردستانquot; بين سايكس و بيكو من جهة، وسلوك من حكمونا من جهة أخرى، ولم يوفروا جهدهم في تهشيمنا نفسياً، وبثوا ما طاب لهم من خرافات بحقنا، كل هذا أدى نسبياً إلى فكّ ارتباطنا العاطفي بما هو مشتركٌ من تاريخنا، وعندما بتنا نرقص لوحدنا، اجتهدنا في البحث عن الوسائل الأخرى الأكثر تأثيراً وقوة من الجيوش والعسكر لنحمي دولتنا الباقية في فكرنا.

إن سايكس-بيكو سرقت منا حدود دولة quot;كوردستانquot;، إلا أن آلامها أقامت quot;كوردستاناًquot; بلا حدود في ثقافتنا، حكاياتنا التي لا تنتهي وفي قصائدنا وفي لوحات الرسامين وأغانينا وأنغام موسيقانا، وقد تركت تبعات الاتفاقية أثراً قوياً في تطوير شخصية الكوردي وصقلها، وتحويلها من شخصية تابعة متطوعة إلى شخصية حساسة طامحة ومفكرة.

في النهاية كـإنسانٍ كوردي لست حزيناً لأننا لم نمتلك دولة يحكمها مستبدون أو تكفيريون، ترجم نساءها وتقتل علماءها، وتُحارب فيها الأقليات، وأرى أن الأهم من الدولة والحدود وقوة العسكر الحارسة هو الإنسان وتكوين وعيه وقدراته وصناعة الفرد القادر على فهم وحماية الدولة أولاً، فالإنسان القاصر لم يكٌ في الأصل ليبني سوى دولةٌ قاصرة.

[email protected]