كثر الحديث منذ بداية الثورة في سورية عن تجربة البوسنة و إسقاط المشهد والوضع فيها على سورية من حيث كمية العنف و التخاذل الدولي، و اعتقد ناشطو الثورة السورية بأن التشابه كبير إلى حدٍ ما، و لكن المعاينة القريبة للوضع هناك والاحتكاك المباشر بالشعب البوسني يوضح ربما تفاصيلاً تختلف بعدها قواعد هذه المقارنة.

فالبوسنة والهرسك يعتبر الآن بلداً هادئ و بسيطاً يحبو حبوه نحو العودة للحياة الطبيعية وتجاوز آثار الحرب و دمارها، كما ترى في شوارعها وحدائقها قبور من لقوا حتفهم في الحرب كأنها جزء طبيعي من الأمكنة، و لا يزال باستطاعة الزائر رؤية آثار الرصاص و الدمار على جدرانها و يخطر السؤال هنا عن آثار الدمار و الحرب في القلوب و الذاكرة أيضاً.

( نساء ينتظمن من أجل التغيير في سورية والبوسنة ) كان هذا عنوان المؤتمر الذي قدمته الرابطة الدولية للنساء لأجل السلام والحرية WILPF منذ أيام، الذي التقى فيه - ربما لأول مرة بهذا العمق - وفد من ناشطات الثورة في سورية بمثيلاتهن البوسنيات، و كان المؤتمر الفرصة الأمثل لمعاينة المشهدين بعيداً عن التحليلات الفردية البعيدة، حيث ضم الوفدان ضحايا الحرب من معتقلات ومهجرات واللاجئات ومناضلات من البلدين.

و بالطبع، فإن معاناة نساء سورية هي الأقسى والأكثر التصاقاً بالمأساة والحقيقة، حيث كنَّ و لا زلن، كما كل نساء الأرض في أية حرب : الفئة الأكثر خسارة على كل الصعد، و لكن ما فاجئ النساء البوسنيات هو أن العمل المدني النسائي السوري و نضال المرأة السورية سياسياً و اجتماعياً كان كبيراً وتعدى مراحلاً كثيرة بالرغم من أن رحى الحرب لم تهدأ بعد. و أن كل هذا النضال والحراك كان تحت تهديد الاعتقال والقتل والنفي المستمر بلا رحمة و مع ذلك لم يشكل نسبياً عثرة بوجه نساء سورية، إضافة إلى تسارع حجم مشاركتهن في الحياة السياسية والعامة في عملية المفاوضات و التحولات السياسية، وهذا ما فقدته نساء البوسنة في المقابل، حيث كانت المرأة البوسنية غائبة تماماً عن المشهد السياسي وعملية المفاوضات والبنود التي أبرمت في اتفاقية دايتون 1995، و كان عملها يقتصر على الإغاثة والمعالجة الطبية، ما أدى إلى نسيان حقوقها وعدم إدماجها في العملية الانتقالية ومراقبة الوضع العام في البلاد، بالرغم من تبني دستور يستند إلى حصول المرأة على نسبة 30% من حصص التمثيل في مؤسسات صنع القرار.

كانت أهم الملفات التي نوقشت في المؤتمر هي الثغرات والأخطاء التي تؤدي إلى تغييب دور المرأة في فترة النزاع و ما بعد النزاع، و اعتبراها ضحية بالمعنى الحقوقي الاعتباري فقط، ما أدى تناسي حقوقها وعدم الاكتراث بها كفئة أكثر خسارة بفعل خصوصيتها، ابتداءً ببرامج جبر الضرر وتعويض أسر المتضررين، حيث كان تعويض اللاجئات والمهجرات العائدات إلى بلدهن ضعيفاً جداً و يعتمد على عدد الأفراد الذين هم على قيد الحياة وليس على عدد الذين لقوا حتفهم في الحرب، كما أفادت إحدى الحاضرات في المؤتمر و التي خسرت زوجها وثلاثة أطفال ودمر بيتها

بالكامل و تم تعويضها بدلاً عن منزلها بغرفة واحدة فقط على اعتبار أنه لم يبقى من العائلة سوى فرد واحد فقط.

و من الملاحظات والتوصيات التي قدمها الوفد البوسني للسوري هو أن يسنَّ بعد النزاع قانون يسمح بتقفي أثر كل من فقد في الحرب، و السماح للمنظمات الدولية أو المحلية بنبش القبور وأخذ عينات من ذوي المفقودين للبدء بعملية البحث. و هذا ما تفاجئت به أيضاً مديرة اللجنة الدولية للمفقودين عندما علمت بأن المنظمات المعنية في التوثيق ومراكز توثيق الانتهاكات في سورية تعمل على ملف المفقودين بالرغم من أن الحرب لم تنتهي و أوضحت أنه من المستحيل العمل على هذا الملف قبل أن تنتهي الحرب لتسهيل عملية تقفي الأثر، و نتيجة رأيها أن السوريين يعملون في حقل المستحيل.

أما عن ملف العنف القائم على النوع الاجتماعي في البوسنة فقد تمت إدانة عشرة آلاف رجل في لاهاي بتهمة الاغتصاب فالبوسنيات يملكن الشجاعة الكافية للتوجه إلى المحكمة ورفع شكوى ضد من قام باغتصابهن على عكس السوريات بسبب الطبيعة الثقافية للمجتمع و أسباب أخرى، فنظام الأسد استخدم الاغتصاب فزاعةً لتخويف المنتفضين ضده دون رحمة، و دائماً ما يكون السؤال الأول للمفرج عنها من سجونه quot;هل تم اغتصابك ؟ quot; قبل سؤالها عن أي شيء، كما كان أداة سهلة لتجييش المجتمع و زرع الحقد و حب الانتقام، فنظام الأسد يعتبر أن زيادة الاحتقان بخصوص الاغتصاب في المجتمع سيؤدي لعملية انتقام واغتصاب بحق نساء أخريات من طائفة أخرى، و يؤدي ذلك إلى زيادة التصاق مؤيديه به خوفاً من الانتقام بعد رحيله أو انهياره.

نتيجة هذه المقارنة بين البوسنة و سورية على صعيد ملف المرأة مثلاً كانت أن المنظمات والهيئات المدنية النسائية السورية بنظر البوسنيات قد شملت جميع الجوانب تقريباً، و اهتمت بكافة الملفات أثناء الحرب مما اُعتبر بمثابة تحدياً لها، و محاولة جبّارة لتلافي الضرر الذي يلحق المجتمع والبلد بالرغم من استمرار تلقيهما للضرر، و النصائح التي استفادت منها المنظمات النسوية السورية هي أن المجتمع الدولي لن يلزم أحداً بأخذ خصوصية المرأة و حقوقها في الحرب و ما بعدها بعين الاعتبار كجزء من سياسة اللامبالاة التي يتبعها في سورية و اتبعها في البوسنة سابقاً. فأثناء المؤتمر غادرت النساء و الناشطات البوسنيات أحد الجلسات إلى الساحة العامة في سراييفو للمشاركة في الاعتصام العام والمشاركة في المظاهرات ضد الفساد، مما يؤكد على أن المطالب والعدالة ستبقى متقدة حتى تحقيق العدالة ومحاربة الفساد وتوحيد البلاد حتى بعد مضي العديد من السنين، و أن المواجهة بين السوريين و نظام أفسد و قتل و شرد لازالت في مراحلها الأولى، و أن المرأة لا يجب أن تألو جهداً في انتزاع حقها و دورها من اللامبالين به خارج البلاد و داخلها.

فالمرأة هي من تصنع السلام في المجتمع و هي من تصالح بعد نزاع لأنها هي من يحمل العبء الأكبر و هي وحدها من تُستهلك كسلعة فيها.