لا تكاد تخلو صحيفة مصرية أو عربية أو عالمية هذه الأيام من أخبار عن الاختراع quot;المعجزةquot; المزعوم الذي كشفت عنه القوات المسلحة في مؤتمر صحفي quot;عسكريquot; الأسبوع الماضي، والذي قيل أنه لن يُبقى على عدد من الأمراض المستعصية التي طالما هددت الإنسان عبر التاريخ. قيل أن الجهاز quot;المعجزةquot; يشفي من كل أنواع الفيروسات الخطيرة كالإيدز والتهاب الكبد الوبائي quot;سيquot; وانفونزا الخنازير وغيرها. الغالبية العظمى مما يكتب تشكك في الأمر لأنه لا يقوم على أية أسس علمية ثابتة موثوق بها، ولا يستند على الخطوات المتعارف عليها في حالات الاختراعات. وصل الأمر بالكثير مما كتب إلى تناول الأمر بسخرية تقترب من الاستهزاء بمصر وبعلمائها وأطبائها ومؤسساتها العلمية. كما نالت القوات المسلحة التي تبنت الاختراع نصيباً لا بأس به من السخرية.

التشكيك في الاختراع quot;المعجزةquot; له مبرراته القوية التي لم يتم دحضها حتى ساعة كتابة هذه السطور. أثبتت التقارير الإعلامية أن الرجل الذي قيل أنه يقف وراء الاختراع، إبراهيم عبد العاطي، لم يحصل طوال حياته، 67 سنة، على درجة علمية في الطب، ولم تربطه في يوم من الأيام أية علاقة علمية صحيحة بالعلاج من الإصابة بالفيروسات. ثبت أن الرجل يؤمن بالدجل والخرافات، وسبق له على مدى سنوات طويلة ادعاء معالجة كافة الأمراض، كالسرطان والإيدز والصدفية وأمراض الكبد والكلى والجهاز الهضمي، بالأعشاب مستخدماً وصفات قام بإعدادها بنفسه من دون الحصول على تراخيص. كما ثبت أن الحكومة المصرية قامت بمطاردته بسبب ممارسته الطب في عيادات من دون أن يكون حاصلاً على الشهادات الطبية اللازمة.

الأمر جد خطير، ومن المؤسف أنه لا يبدو أن أحداً من قادة القوات المسلحة المصرية يعي مدى الإساءة التي تتعرض بها سمعة مصر واسمها. تصر القوات المسلحة على أن الاختراع quot;المعجزةquot; لا غبار عليه، وأنه صالح بنسبة مائة بالمائة. بلغ التحدي أن رفضت القيادة العسكرية تقديم المزيد من المعلومات عن الاختراع بحجة عدم إفشاء أسرار تتعلق بحماية الأمن القومي المصري. لم يبين أحد للأسف ماهية المخاطر وطبيعتها. وضربت القوات المسلحة عرض الحائط بكل ما تكشف عن الاختراع quot;المعجزةquot; المزموع والرجل الذي يقف من ورائه، وأكدت على عدم تراجعها عن موقفها. وقد خرج أحد أعضاء فريق عبد العاطي بالأمس ليؤكد على أن الجهاز سيتم استخدامه بصورة رسمية في المستشفيات ابتداءً من يوليو المقبل.

كنت قبل أن تتبين الحقائق بشأن الاختراع quot;المعجزةquot; كتبت مقالاً ذكرت فيه أنه رغم كل الشكوك التي تحيط بالأمر، إلا أن الإعلان عنه هذه الأيام ربما يكون مؤشراً على اهتمام المشير عبد الفتاح السيسي، في حال تولى رئاسة الجمهورية، بالأمور الصحية التي ساءت أحوالها في السنوات الأخيرة حتى باتت مصر مثار شفقة العالم. لكن الأنباء التي تواردت من القاهرة في الأيام الأخيرة والتي أكدت على أن مسألة الاختراع المعالج ليست إلا كذبة كبرى أوضحت أنني كنت حسن النية بشكل مفرط.

ليس طبيعياً أن تتحدى القوات المسلحة هكذا وبشكل صارخ كل الأسس الراسخة التي يتنباها العالم في مجال البحث العلمي. كان مثيراً للغاية الكشف عن أن إبراهيم عبد العاطي لا ينتمي إلى القوات المسلحة، وأن قراراً علوياً صدر بمنحه رتبة اللواء حتى يتمكن من العمل تحت راية القوات المسلحة. لعل هذا يعني أن قيادة القوات المسلحة كانت على علم تام بكافة أنشطة عبدالعاطي، وأنها قررت عن اقتناع تبني خطه الدجلي الذي يستخدمه الكثيرون من تجار الدين والمولعين بالغيببات هذه الأيام.

قد يعكس تأييد القوات المسلحة للاختراع quot;الخرافيquot; أبعاداً مختلفة لا تتعلق كثيراً بالطب والاكتشافات العلمية الحقيقية التي تساعد في تشخيص وعلاج المرضى. الأمر ربما يرتبط بإيمان البعض داخل القوات المسلحة بالغيبيات التي يتبناها إبراهيم عبد العاطي كأسلوب للعلاج الوهمي من الأمراض. لكن قرار القوات المسلحة تبني خرافات عبد العاطي لا يمكن أن يمر من دون أن يثير تساؤلات مهمة بشأن علاقة المشير السيسي بالأمر. من المستبعد تماماً أن يتم كل ما تم من دون مشورة القائد العام للقوات المسلحة. من المستبعد أيضاُ أن يتم منح مدني رتبة لواء بالجيش من تصديق وزير الدفاع. من المهم هنا الإشارة إلى أن المشير السيسي نفسه ليس بعيداً عن مسألة الغيبيات. سبق للرجل أن قال، قبل فترة، في أحد حواراته الصحفية، أنه كان يرى رؤى وأن إحداها تنبأت له بالوصول إلى كرسي الرئاسة في مصر.

الغيبيات والخزعبلات لم تكن أبداً غريبة عن رجالات القوات المسلحة والسياسيين المصريين. كانت الخرافات تلعب دوراً مهما في الحياة السياسية خلال عهدي جمال عبد الناصر وأنور السادات عن طريق حسن التهامي، أحد أبرز الضباط الأحرار وأحد المقربين بشدة من رئيسي الجمهورية الأسبقين. يُروى عن التهامي أنه كان يرى رؤى ويتلقى إشارات كان ينقلها لرؤسائه وزملائه حتى يحترسوا ويحترزوا. كان يوقف الاجتماعات الكبرى لإلقاء التحية على الأنبياء والأولياء المارين أمام عينيه، بالطبع من دون أن يراهم أحد غيره. يقول وزير الشئون الخارجية الأسبق بطرس بطرس غالي في كتابه quot;طريق مصر إلى القدسquot; أن السادات كان يصف التهامي بالرجل البركة، وكان يتفاءل به إلى جانبه حتى أنه اصطحبه معه في زيارته التاريخية إلى القدس رغم أنه لم يكن له دور رسمي في المحادثات مع الإسرائيليين.

ما يحدث في مصر اليوم كارثة بكل المقاييس. ما تروج له القوات المسلحة كارثة علمية، كارثة أخلاقية، وكارثة سياسية. كأن مصر ليس بها ما يكفيها من كوارث. القوات المسلحة مطالبة اليوم بتصحيح الأمور ووضع النقاط فوق الحروف في ما يتعلق بالاختراع quot;المعجزةquot; الذي لم يبهر أحدا إلا ابراهيم عبد العاطي وأعوانه وبعض العسكر. المسئولية هنا تقع بصورة شخصية على المشير السيسي الذي يقود دفة القوات المسلحة. من المهم أن يقدم السيسي توضيحات حول كل ما قيل في المؤتمر الصحفي الذي أقام الدنيا ولم يقعدها. لابد من خروج السيسي عن صمته لشرح ما حدث وإعطاء الأجوبة اللازمة للتساؤلات المطروحة بشأن مصداقية إبراهيم عبد العاطي، وحقيقة الأجهزة العلاجية غير المسبوقة في تاريخ الطب، وسبب عدم خوض القوات المسلحة المسار الطبيعي للاكتشافات الطبية والعلمية.

لقد لعب المشير السيسي دوراً لن ينساه له التاريخ حين مد يده للمصريين وساعدهم في التخلص من حكم الإخوان المسلمين الذي كان سيدفع مصر إلى عالم بعيد من الغيبيات والخرافات الدينية. اليوم يقع على عاتق المشير السيسي دور تصحيح الأخطاء التي ارتكبت، وضرب المثل في إعلاء شأن العلم والعلماء. مصر التي خرجت شبه سليمة من تجربة الإخوان لا يجب أن تسلك طريق الغيبيات والخزعبلات. العلم وحده هو السبيل الذي يجب أن تسلكه مصر إذا أردنا لها أن تستفيق وتنهض وتتطور. أما الخرافات فلا يجب أن يكون لها مكان على أرض مصر. لقد أيدت مصر بمثقفيها وعلمائها موقف المشير السيسي حين تحدى الغرب عندما سعى للتخل في شئون البلاد، لكن هذا التأييد لا ولن يمتد لتحدي الأعراف العلمية المعروفة دولياً. ليت المشير يؤكد على أنه لا دخل له بالخرافات التي يقوم عليها أسلوب إبراهيم عبد العاطي. ليته يتدخل قبل فوات الأوان لإنقاذ سمعة مصر مما أساء ويسيء إليها.

[email protected]