لنظام الإقتراع على القائمات الذي دأبت تونس على اعتماده مساوئ عديدة أبرَزَها فقهاء وشراح القانون في الكثير من البحوث والدراسات، وقد وصفه أحدهم بأنه "كارثة على الديمقراطية" باعتباره يصادر حق الشعوب في اختيار حكامها وممثليها في مختلف المجالس والهيئات المنتخبة ويؤسس لديكتاتورية الأحزاب وهيمنتها المطلقة على الحياة السياسية.
لقد تنازلت الشعوب تاريخيا عن حقها في الحكم المباشر واعتمدت الديمقراطية غير المباشرة، وذلك تكيفا مع التطور السكاني الذي شهدته المجتمعات البشرية والذي استحال معه تجميع الملايين في مكان عام لاتخاذ القرارات المصيرية المتعلقة بالدولة، مثلما كان يحصل في الأزمنة الغابرة في بعض المدن الإغريقية خصوصا في عهد حاكم أثينا الشهير "بيريكليس"، وأيضا في زمننا الحاضر في ثلاث مقاطعات سويسرية محدودة الساكنة. ورغم هذا "التنازل الطوعي" الذي فرضه الواقع، والمتمثل في تفويض شؤون الحكم إلى نواب منتخبين، فإن البعض مازالت تحدوهم الرغبة في مزيد الحد من حق الشعب في حكم نفسه بنفسه من خلال الدفاع عن نظام الإقتراع على القائمات ومحاولة فرضه بشتى السبل.
فحين نوكل إلى الأحزاب وحدها عملية انتقاء ممثلي الشعب لدى مختلف الهيئات في قائمات مغلقة، ودون مشاركة المحكومين في عملية الإختيار، ثم نفرض على الشعوب إما القبول بالقائمة بمن فيها أو رفضها كلية بمن فيها أيضا، فإننا رسخنا عمليا ديكتاتورية الأحزاب من خلال القضاء على حق المحكومين في اختيار من سينوبهم ويدافع عن مصالحهم في مختلف مؤسسات الدولة، في مرحلة ما قبل الإقتراع. فالديمقراطية "الحقيقية" بحسب البعض، هي تلك التي يساهم فيها المحكومون في عملية الترشيح وليس فقط في عملية التصويت يوم الإقتراع.
وما يزيد الطين بلة فيما يتعلق بالحالة التونسية، هو أن السواد الأعظم من هذه "التنظيمات" المشكلة للخارطة السياسية، لا تمت للديمقراطية بصلة. فبعض أحزابنا لم تعرف منذ تأسيسها سوى رئيسا واحدا أحدا، وبعضها الآخر مازال لم يعقد مؤتمره التأسيسي بعد، وهو ما انعكس سلبا على عملية اختيار رؤساء القائمات وأعضائها. فالإختيارات تمت في أغلب هذه الأحزاب على أساس الولاء لهذا القيادي أو ذاك، وطغت المحسوبية ولم يتم اللجوء إلى الطرق المعتمدة في الديمقراطيات العريقة، أي الإنتخاب أو دراسة ملفات المترشحين من قبل لجان متخصصة وفقا لمعايير دقيقة يتم الإتفاق عليها سلفا.
فمن مساوئ نظام الإقتراع على القائمات أنه يمكن بعض المنتمين إلى فئات "المنخنقة والموقوذة والنطيحة وما أكل السبع" أي سياسيو الصدفة، ممن لا يمتلكون لا الكاريزما ولا الموهبة المصقولة بالتكوين السياسي الجيد، أو غير القادرين على التأثير وجلب الأنصار و"المريدين"، أو الذين ذاع صيتهم السيء بين أبناء جلدتهم، من التخفي داخل قائمة حزبية واستغلال سمعة الحزب وحجمه الجماهيري أو شعبية رئيسه للوصول إلى السلطة.
فالأفضل، بحسب الكثيرين، هو اعتماد نظام الإقتراع على الأشخاص في دوائر صغيرة وضيقة حتى لا يكون المرشح مجهولا من جمهور ناخبيه وقادرا على التواصل معهم مباشرة بعد نجاحه في الإنتخابات. فهذا النظام يجعل الأحزاب تبحث عن الكفاءات دون سواها لترشيحها دونا عن النكرات لضمان الفوز في هذه الدوائر الصغيرة.
أما حديث البعض عن أن نظام الإقتراع على الأشخاص سيفرز برلمانا غير متجانس تغيب فيه الكتل القوية القادرة على تشكيل التحالفات التي تضمن الإستقرار في الحياة السياسية، فهو مردود على أصحابه باعتبار إمكانية سن شرط يقضي بأن يكون المترشح بالضرورة منتميا إلى حزب سياسي وهو ما سيحث المواطنين أيضا على الإنخراط أكثر فأكثر في الأحزاب السياسية ويقضي على حالة العزوف عن الإنتماء السياسي التي نعيشها في تونس. كما أن الحديث عن أن نظام الإقتراع على الأشخاص في دوائر صغيرة يهدد ببروز ظاهرة "العروشية" (القبلية) مجددا لا يستقيم، باعتبار أن هذه الظاهرة بارزة وجلية حتى في نظام الإقتراع على القائمات، مثلما يثبته الواقع، حيث نصَبت بعض الأحزاب رؤساء لقائماتها في بعض الجهات الداخلية آخذة بعين الإعتبار الإنتماء العروشي لرئيس القائمة، حتى أن حزبا "كبيرا" أزاح رئيس قائمة مفترضا في جهة داخلية، لأن العرش (القبيلة كما تسمى في تونس) الذي ينتمي إليه لا يعدو أن يكون سوى "أقلية" في الولاية أو الدائرة الإنتخابية الراجع لها بالنظر.
إن بلادنا بحاجة ملحة اليوم إلى بروز طبقة سياسية جديدة تتشكل من قيادات شابة قادرة على العطاء وتتمتع بالكفاءة وبالقدرة على التأثير في محيطها. وقد يساهم نظام الإقتراع على الأشخاص في اكتشاف هذه "المواهب" التي تزخر بها الخضراء دون شك والتي تحول الأحزاب السياسية دونها والبروز في الصفوف الأمامية وتوظفها وقودا لمعاركها وأنشطتها لا غير.
&