صرح وزير الثقافة العراقية الجديد السيد فرياد راوندوزي لصحيفة الزمان "أنني لا أعد بمعجزات" وسأترك في قراءتي وكتابتي هذه بقية التصريحات التي أدلى بها السيد الوزير عن الوزارة ومستقبل الثقافة العراقية.
لا يختلف موهوبان أو وطنيان عراقيان على أن حال الوطن العراقي هو حال متدهور ويسير نحو الخراب وهو أي الوطن العراقي نفسه يحتاج إلى معجزة أو إلى "بوتن" جديد يضع المافيات في السجون ويعيد للعراق وجهه الحضاري. أما وزارة الثقافة فهي حقاً بحاجة إلى معجزة لا يعد بها الوزير. ولكن بدون هذه المعجزة لا قيمة للوزارة وهي ستبقى وزارة هامشية فيما وزارة الثقافة في حقيقتها هي وزارة سيادية والأولى في سياديتها.
إن سبب فشل وزارة الثقافة منذ تاريخ سقوط النظام الدكتاتوري يكمن في إعتبارها وزارة هامشية تعطى للمجاملة السياسية ولتسجيل رقم في سقف الحقائب الوزارية، وتعتبرها الحكومة وزارة إنقاذ في بعض المواقف المحرجة والمتعلقة بعدد الحقائب الوزارية. فإذا لم ينجح السيد الوزير في إعادة الإعتبار إلى هوية العراق الحضارية فسيصبح هو بالضرورة وزيراً هامشياً ضمن كارثة المحصاصة الطائفية والعرقية، فأما أن يكون أو لا يكون!
الثقافة وبمفهومها الحضاري غائبة عن سياسة الدولة العراقية وهذا أهم ركن من أركان الخراب الوطني، ولو كان بإمكان الحكومة والدولة العراقية إلغاء وزارة الثقافة لما توانت لحظة واحدة عن ذلك. فالثقافة تعتبرها الدولة والحكومة العراقية عبئا عليها فيما هي وزارة سيادية في حقيقتها. وبإمكان وزير الثقافة أن يجعل منها وزارة سيادية وهنا فقط تكمن المعجزة.. ولهذه المعجزة تفاصيل ثقافيها على السيد وزير الثقافة البحث فيها ودراستها.
في مقدمة فكرة المعجزة ومشروع المعجزة أن يعيد السيد الوزير هيكلة وزارة الثقافة بمؤسساتها ودوائرها الملتبسة والمتداخلة إداريا وبيروقراطيا بما يساعد الوزارة والمثقفين على تأدية مهامهم الإدارية والإبداعية ووفق منهج واحد لا يقبل التثنية وهو نتاج تجارب عالمية من أن وزارة الثقافة هي وزارة لا يحق لها إنتاج الثقافة بل دعم الثقافة وفق أسس علمية وحضارية.
عندما أستوزر رئيس وزراء اليونان "أندرياس بابا أندريو" الفنانة الكبيرة "ميلينا ميركوري" كوزيرة للثقافة فإنها تمكنت من تغيير النهج الثقافي الفاشي الذي كان سائدا أبان حقبة "كرامليس" الدكتاتورية. ويتمثل تغيير النهج بتحويل وزارة الثقافة إلى مؤسسة تدعم الثقافة وتؤسس القاعدة المادية للإنتاج الثقافي ولا تنتج الثقافة. ولقد إستفاد خاتمي عندما تسلم مسؤولية وزارة الثقافة الإيرانية من التجربة اليونانية وتمكن من إنعاش الثقافة الإيرانية بنفس النهج وقد وضح ذلك أكثر ما وضح في طبيعة الإنتاج السينمائي.
إن إنتاج الثقافة هي رؤية وستراتيجية شمولية حيث تقوم البلدان الشيوعية والإشتراكية التي تؤسس للأيديولوجيا وليس لبناء الدولة، بإنتاج الثقافة وتجعلها تمشي في مسار إيديولوجي واحد. ومن أهم ما ينبغي على وزارات الثقافة في النظم التي تعتمد النهج الديمقراطي حقيقة أو حتى شكلا أن تلغي الإنتاج الثقافي من منهجها وأن تؤسس لمنج الدعم الثقافي وبما يلي.
أولا – إنشاء مؤسسة الذاكرة العراقية، وهذه مهمة تاريخية وحضارية سيما عندما يكون البلد قد وقع تحت تأثير نظام فاشي أو شمولي حيث يعمد على محو الذاكرة التاريخية ومحو الهوية الوطنية والثقافية، ولقد سمعنا أبان الحقبة الدكتاتورية المقيتة أن تاريخ العراق يبدأ من تاريخ تولي الدكتاتور السلطة وكرس كل التاريخ بإسمه حتى عمد إلى كتابة إسمه على الآثار السومرية والبابلية.
في زيارتي للعراق بعد غياب قرابة الأربعين عاماً وجدت تاريخ العراق المصور مدفونا تحت أنقاض سقف من الكونكريت مهدم وطوال ثمان تحت الأمطار والتي حولت تراب السقف إلى أتربة وطين فيما الأفلام السينمائية تحفظ بدرجة حرارة ثابتة تسعة عشر مئوية وفي مناطق غير رطبة وتزود بأجهزة شفط الغبار غير المرئي في الأجواء. والبناية موجودة في الباب الشرقي على نهر دجلة. لا أحد يمكن أن يعرف ماذا تحتوي تلك الملايين من الأمتار السينمائية وجميعها أفلام سالبة "نيكتيف" وفيها تاريخ العراق المصور منذ الحقبة الملكية وحتى الوقت الحاضر. في الوقت الذي يناضل العالم من أجل الحصول على صورة واحدة ثابتة مفقودة فنحن لدينا تاريخ بملاييارات الفريمات السينمائية قياس 35 ملمتر سالب ومثلها موجب موجود في سرداب مثقوف السقف في بناية دائرة السينما والمسرح، تمكنت وبدعم مدير عام مؤسسة السينما من نقل الأفلام السالبة إلى بناية ليست مهدمة وهي ليست سوى خطوة بدائية أولية للمحافظة على الأفلام من الأمطار والطين والأتربة التي أخشى أن يكون الكثير قد تلف كليا أو جزئيا بسببها وهي بحاجة إلى ترميم تقني عالي المستوى. أما الأفلام الموجبة وهي بنفس حجم وكمية الأفلام السالبة فهي موجودة في مخزن مثقوب السقف وتنزل عليها مياه الأمطار كل شتاء ويعمل في المخزن عدد من الموظفين والموظفات وهو شأن ممنوع، ممنوع أن يعمل الموظفون داخل هذه المخازن حيث عادة تفرز هذه الأفلام مواد سامة سيما إذا لم تكن محفوظة بطريقة نظامية وقد طلبت في رسالة مكتوبة إرسال الموظفين إلى الفحص الطبي ولم تتم الإستجابة لرسالتي وبعد فترة قصيرة ظهرت بوادر المرض عند أحد الموظفين لأن الأفلام فيها من نترات الفضة والمادة السليلويدية المهترئة وكلها محفوظة في علب من الصفيح الذي علاه الصدأ وتحت الأمطار شتاء ودرجة الحرارة الصيفية التي تصل إلى خمسين درجة وبدون تبريد. هذا مجرد مثال يتعلق بالذاكرة العراقية، إضافة إلى ذاكرة الصورة الثابتة وذاكرة المدونات وأسماء المفقودين والأنفال والمقابر الجماعية وكل كوارث العراق أو يومياته النادرة السعيدة "إن وجدت". وحتى الأحداث التالفة، أوغير الموثقة ينبغي إعادة صياغتها وتجسيدها. هذه مهمة تاريخية وحضارية لا علاقة لها لا بالفكر اليساري ولا بالفكر القومي ولا الديني.
هناك حقائق مخيفة في مجال الأرشيف وهو الوثيقة المتحركة للذاكرة. إن الدكتاتور العراقي مثل كل كل الدكتاتوريين في العالم يعشق أن يرى نفسه في المرآة كما ويتلذذ بأن يشاهده الناس على المرايا مقتولين ميتين من أجله، مثل هتلر وموسوليني وستالين ومنغستو هيلا مريام وباتستا وغيرهم. وكان الدكتاتور العراقي يحب أن يرى جرائمه مصورة ويتلذذ بمشاهدتها في قصره. ففي العام 1978 وهو لما يزل نائيا ولكنه كان الحاكم الفعلي أستورد مشنقة جديدة وحتى يقوم بتجربتها نفذ حكم إعدام بحق مواطن وطلب تصوير تجربة الشنق التي فشلت وقد صورها المخرج "صبيح عبد الكريم". وعلى القارئ أن يتصور معنى الفشل وتصوير الفشل! هذه حادثة واحدة مرعبة من سيكولوجية الدكتاتور.. فمن يا ترى يعرف ماذا تحتوي كل ملايين تلك الأمتار المعرضة للتلف!؟
لقد شاهد أحد مسؤولي النظام السابق في العام 1973 الجريدة السينمائية المصورة وهو يبحث عن وثائق كانوا بحاجة إليها فشاهد لقطات لعبد الكريم قاسم أبان الثورة فأشتاط غضبا وقال لقد جئنا للسلطة وهذا لما يزال حيا فطلب كل الوثائق التي فيها لقطات لعبد الكريم قاسم وطلب جمع الجريدة السينمائية المصورة من تاريخ 14 تموز 1958 تاريخ الثورة العراقية والجمهورية الأولى وحتى تاريخ الثامن من شهر شباط عام 1963 وهو تاريخ الإنقلاب البعثي الدموي وتم حرق كل تلك الوثائق السينمائية المصورة، والبعض ينكر هذه الحقيقة، لكنني وعند ذهابي للعراق بعد سنوات من
التغيير طلبت الإطلاع على الأرشيف وعلى سجلات الأرشيف فوجدت هذه الفترة محذوفة من السجلات وكذلك أفلام سينمائية أخرى غير موجودة! ومنها كل ما يتعلق بالأهوار التي تم تجفيفها.
لقد تأسست في أمريكا هيئة ولأول مرة تسمى "السينما العالمية" وهذه المؤسسة أخذت على عاتقها رعاية الوثائق السينمائية المصورة في العالم. ومن ضمن منهجها أنها أرسلت رسالة مطولة لوزارة الثقافة أطلعت عليها يطلبون من وزارة الثقافة التعاون في مجال الأرشيف السينمائي وهم يريدون الحصول على وثائق تتعلق بـ "مسز بيل" ودورها في تأسيس الدولة العراقية وكذلك دورها في عالم الآثار العراقية وما نقلته من آثار هامة لمتاحف العالم وبشكل خاص المتحف البريطاني. كما وتضمنت الرسالة إستعداد هذه المنظمة العالمية للسينما تدريب خبراء في الأرشفة السينمائية في ثلاث دول على نفقتها حتى يتمكنوا من تأسيس الذاكرة العراقية. لم تتخذ الوزارة أي أجراء يتعلق بالذاكرة العراقية ولم تجب على رسالة منظمة السينما العالمية. كما أن منظمة اليونسكو قد عرضت أكثر من مرة تبني إنقاذ تاريخ العراق المصور ولم تستجب الحكومة العراقية ولا وزارة الثقافة لهذا الطلب. وكأن العراق الحاضر يتقصد إتلاف الذاكرة العراقية والتاريخ العراقي على غرار ما كان يعمل به الدكتاتور. قمت بتصوير حال الوثائق العراقية تحت الأنقاض فوتوغرافيا وسينمائيا السالب منه والموجب وبالتفاصيل!
ثانيا – بناء مدينة للسينما، من الصعب على الفرد الواحد وفي صيغة الدولة العراقية ان ينشيء مدينة سينمائية سيما في عدم وجود كم من الإنتاج يغطي كلفة المدينة السينمائية، فمدينة "بوليوود" الهندية هي مؤسسة شخصية في بلد من أكثر البلدان إنتاجا للأفلام حيث وصل معدل الإنتاج في الهند هو فيلمين في اليوم. بمعنى وجود كم هائل من الشركات السينمائية وهناك كم من الصالات السينمائية وعدد هائل من المشاهدين قياسا بعدد سكان الهند البالغ مليار وستمائة مليون نسمة.
ومن هنا تأتي أهمية تولي وزارة الثقافة بناء مدينة السينما حيث تسهم في تشجيع المنتجين على الإنتاج لأنه يؤمن لهم وفرا في الكلفة الإقتصادية. وبناء مدينة السينما كمفردة من مفردات تأسيس القاعدة المادية للإنتاج السينمائي ستساهم بالضرورة في تحقيق الكم والنوع في السينما وتطويرها.
ثالثا – فصل المسرح عن السينما وفصل الفنون الشعبية عن المسرح لأن كل من المسرح والفنون الشعبية والسينما هي أدوات تعبير مختلفة وفصلها وإستقلالية كل أداة تعبير عن الأخرى يساعد على تطوير كل أداة ورسم سياستها فلا توجد في العالم مؤسسة واحدة تضم المسرح والسينما والفنون الشعبية.
رابعا – الوقوف بشجاعة أمام المراكز الثقافية العراقية في العالم، فهذه المراكز الثمانية عشر مركزا قد تم تأسيسها من قبل وزارة الثقافة ليس بهدف ثقافي بدليل نحن لم نسمع أي نشاط لهذه المراكز سوى نشاطات وندوات مفتعلة بدون منهج وأغلبها بدون نشاطات. السبب الذي حدا بوزارة الثقافة لإنشاء هذه المراكز هو تعيين أقرباء الوزارة وحاشيتهم في تلك المراكز وبمرتبات مبالغ فيها. مطلوب فورا تغيير تلك الوظائف وبدون تردد وبدون إستثناء وتعيين مثقفين حقيقيين من الوطن وتخصيص ميزانيات ضمن برامج ثقافية تعكس وجه العراق الحضاري وإنعاش الأدباء والمفكرين العراقيين المحرومين من كل فرص نشر إبداعهم السينمائي والتشكيلي والمسرحي والأدبي في العالم، وفق خطة عمل ومنهج علمي ومرتبطة بمرجعية إدارية من الوزارة أو من الوزير نفسه، لأن الفساد كان هو الدافع لتأسيس تلك المراكز الثقافية، وهو أيضا المحصلة لتأسيس تلك المراكز الثقافية الميتة.
خامسا – تطوير قناة الحضارة الفضائية التابعة لوزارة الثقافة العراقية وجعلها قناة فاعلة وبخطة عمل ثقافية وميزانية جديرة بالإنتاج وتخليصها من قناة مقابلات تلفزيونية فهي قناة صوتية أكثر منها بصرية هي أشبه بالراديو المرئي. وهذه القناة ينبغي أن تزود بكادر ثقافي يدرك معنى الصورة وكذا الصوت ورسم هيكلية برامجية للقناة وفق ميزانية تؤمن ذلك.
سادسا – دعم النقابات المهنية ماديا مثل إتحاد الأدباء ونقابة الفنانيين وتخليصها من شكلها الديناصوري المتآكل وتجسيد دور الثقافة الشابة النشيطة فيها وتخليصها من الطابو الثقافي المتوارث ووفق نشر فرص الديمقراطية في تشكيل النقابات المهنية لتأمين حقوق الفنانين والأدباء ومنحهم فرص التفرغ لتحقيق مشروعات مكتوبة أو مرئية.
سابعا – إنشاء صالات سينما في كل محافظة صالة نظامية تابعة لوزارة الثقافة لا تتوخى الربح كذا بناء مسارح تتيح للفرق المسرحية تقديم أعمالها عليها وكذلك إنشاء صالونات للفنون التشكيلية.
ثامنا – تشجيع ودعم مالي لنوادي السينما في كل المحافظات ما يسهم في نشر الوعي السينمائي والثقافة السينمائية.
تاسعا – تكريس ثقافة حرية التعبير "المسؤولة" وعدم تقسيم الثقافة إلى تسميات كلاسيكية "الثقافة الليبرالية" و "الثقافة الدينية" فالثقافة هي ثقافة كيف ننظر إليها بعين العلم وبعين الحضارة وبعين الوطنية. وفي هذا المجال يمكن أن تلعب قناة الحضارة الفضائية وسياستها دورا فاعلا في نشر هكذا ثقافة.
هل يتمكن السيد وزير الثقافة من تحقيق المعجزة!؟
بدون تحقيق المعجزة الثقافية وتوفير متطلبات تحقيقها، سوف تبقى وزارة الثقافة مجرد وزارة مجاملة هامشية تعطى لتسديد رقم من حقائب المحاصصة الطائفية والعرقية. ومن العيب القبول بها وفق هذا المضمون، لأنها ليست سوى بناية للإيجار تضم كما هائلا من الموظفين العاطلين عن العمل.
إن وزارة الثقافة أهم بكثير من وزارتي الدفاع والداخلية التي يتم الإحتراب بصددهما. فالثقافة هوية الوطن فيما السلاح هو دم الأبرياء.
عندما تسقط السياسة يسقط النظام وعندما تسقط الثقافة يسقط الوطن!
&
سينمائي وكاتب عراقي مقيم في هولندا
&
&
التعليقات