&أثار مقالنا السابق المنشور في إيلاف يوم 21/9 و المعنون (ماذا بعد تجهيل الثقافة العراقية) بعضا من اللغط و التساؤلات، وحيث إعترض بعض السادة القراء على توصيفنا للوضع الثقافي في زمن صدام حسين!

و الواقع ومن أجل إضاءة أكثر تركيزا على الموضوع أود التأكيد من أنه ينبغي التمييز التام بين العهد البعثي الأول و الممتد من 1968 وحتى 1979، و العهد البعثي بنسخته الصدامية الرثة و الممتد من 1979 وحتى 2003، وهو عهد سقوط و تهاوي الثقافة العراقية و عسكرتها و إلباسها اللون الزيتوني و طغيان المسدس على القلم! وبما أدى لسقوط العراق بأكمله لاحقا.

في العهد البعثي الأول كانت إنطلاقة الفن و الإبداع العراقي في مختلف المجالات المعرفية، فمرحلة السبعينيات كانت مرحلة إنطلاقة الإبداع العراقي أدبا و موسيقى و تعليما وقطع أشواط حقيقية في التنمية البشرية و التعليمية، فحينما جاء البعثيون بإنقلابهم الأول في 17 تموز 1968 ثم الثاني في 30 تموز إستلموا السلطة وكانت تنتصب و تتراقص أمام عيونهم تجربة الفشل السابق لسلطتهم في 8 شباط/فبراير 1963 و شططهم الفظيع في ممارسة السلطة وقتذاك إضافة لدمويتهم المفرطة في التنكيل بالشيوعيين العراقيين وصراعاتهم البينية و التي أدت في نهاية المطاف لأن يقوم الرئيس السابق عبد السلام عارف بإبعادهم عن السلطة عبر إنقلاب عسكري دبره مع بعض من ضباط وجنرالات البعث و الضباط الناصريين من أجل إنهاء التجربة البعثية الدموية التي كانت ماثلة أمام عيون أهل إنقلاب القصر لعام 1968، فحرصوا على الظهور إعلاميا و أمام الناس بمظهر مختلف رغم أنهم مارسوا إرهابهم السري ضد معارضيهم منذ اللحظات الأولى للإنقلاب من خلال حملة الإعتقالات و الإعدامات السريعة في ( قصر النهاية ) وهي المرحلة التي إستمرت بشكل فظ حتى عام 1973 حينما تم التخلص من قصر النهاية و تصفية اللواء ناظم كزار مدير الأمن العام و المتخصص في قتل الشيوعيين وكل المعارضين بطرق بربرية لا مجال هنا لتفصيلها، وفي شهر تموز/ يوليو عام 1973 أي بعد أيام من إعدام زمرة الأمن العامة وقصر النهاية أعلنت الجبهة الوطنية و القومية التقدمية التي ضمت حزب البعث و الحزب الشيوعي العراقي الخصم اللدود للبعث وجماعات كردية وقومية أخرى، وهي الجبهة التي أرادها الرئيس العراقي السابق أحمد حسن البكر أن تكون جبهة وطنية راسخة لا أن تقوم اليوم و تنفرط غدا حسب تعبيره وقتذاك.

وفي ظل الجبهة التي إستمرت حتى أواخر عام 1978 خرج الشيوعيون من سراديب العمل السري الطويل لضوء الشمس و تمكنوا من نشر أفكارهم و مطبوعاتهم علنا وفي أجواء واضحة من الحرية بعد أن فتحوا مقراتهم و تفاعلوا مع أنصارهم و أعضاءهم و شاركوا أيضا في السلطة من خلال بعض الوزراء ولكن في ظل توجس أمني حذر.

في تلكم الأجواء تسنى لفناني و أدباء الحزب الشيوعي الظهور و التميز فصدرت الكتب و الدراسات و قامت السلطة البعثية بإنشاء الدار الوطنية للنشر، وتمت طباعة النتاجات الفكرية لكبار أدباء و مفكري العراق و العالم العربي و كذلك الترجمات وبأسعار رخيصة جدا وصدرت الصحف المغايرة للصحف الحكومية كطريق الشعب و الراصد و مرافيء وغيرها، كما شهدت ساحة الفن و الغناء العراقي نهضة غيرمسبوقة لكون غالبية فناني و مطربي و شعراء و موسيقيي العراق كانوا من الشيوعيين أو أنصار اليسار و الفكر الماركسي فظهرت الأوبريتات الغنائية كأوبريت بيادر خير من بطولة ( الراحل فؤاد سالم و المطربة شوقية ) كما عرضت المسرحيات و الأعمال الفنية الهادفة، كما نشط البعثيون في كسب العناصر الشيوعية من الفنانين و الأدباء لصفوفهم وظهرت الأصوات الغنائية العراقية الشابة وقتذاك من أمثال سعدون جابر و فاضل عواد وصباح السهل و حميد منصور وياس خضر و أنوار عبد الوهاب و سيتا هاكوبيان و كمال السيد و قحطان العطار و جاسم الخياط وغيرهم الكثير الكثير ممن تخونني الذاكرة من تذكر أسماؤهم.

وعاد للعراق من منفاه شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري و تألق مهرجان المربد الشعري في البصرة بستضافة كبار الشعراء العرب كنزار قباني و محمد الفيتوري وغيرهم، لقد كانت فعلا مرحلة متميزة و غير مسبوقة من الحرية الثقافية و الأدبية في العراق إنعكست على الواقعين الإقتصادي و الإجتماعي الذي شهد تحسنا ملحوظا رغم أن السلطة كانت تنتهج سياسات راديكالية في المنطقة بعد الإنضمام لما كان يسمة بجبهة الصمود و التصدي التي رفضا مبادرة الرئيس المصري الراحل أنور السادات السلمية تجاه إسرائيل عام 1977 وحيث تم عقد القمة العربية لأول مرة في بغداد عام 1978 كرد على زيارة السادات للقدس وهي القمة التي عزلت مصر عن العالم العربي، أتذكر وقتها أنه لم تكن هنالك فنادق كافية في بغداد لإستقبال الملوك و الرؤساء و الأمراء العرب! فعمدت السلطة لإستئجار بيوت المواطنين الأثرياء في بغداد و تأثيثها من جديد لتكون مقرا لإقامة القادة العرب..!

في نهاية ذلك العام 1978 حدث المكروه و تم التراجع الواضح عن سياسة الإنفتاح و تأزم الموقف و العلاقة بين حزب البعث و الحزب الشيوعي الذي أضطر قادته للهرب و التواري من جديد وجاء صيف عام 1979 ليشهد إنقلابا بعثيا داخليا دمويا هيمن بعده الرئيس السابق صدام حسين و تياره و عائلته على كل مسارب ودروب السلطة في العراق و أقام وضعا فاشيا تميز بقمع كل المخالفين و بقسوة فظيعة، وتفنن في إصدار أحكام الإعدام لأتفه الأسباب وتمت مطاردة كل القوى السياسية العراقية، مع إتباع سياسة ( التبعيث ) الكامل في العراق، ففي نظر السلطة الجديدة: فإن العراقي الجيد هو البعثي الجيد فقط لاغير!! كما طرح شعار: بأن كل العراقيين بعثيون و إن لم ينتموا!!

وبهذا فقد أسدل الستار بالكامل على كل إبداع مخالف لفكر ورأي الحزب و القائد الواحد الخالد!!

ثم كانت طاحونة الحرب المجنونة مع إيران التي عسكرت الفكر و الثقافة العراقية ودمرت أجيال كاملة من العراقيين وزرعت البذور الأولى للعدوانية الشرسة في الشخصية العراقية التي رأيناها و تابعناها بعد غزو الكويت عام 1990 ثم تعمقت حاليا فيما نراه من تدني فكري و سلوكي و ميل للحقد و الغطرسة و التعصب الديني أو المذهبي أو العرقي المنتشر في العراق حاليا!

كان ماتقدم توضيح لابد منه لتحليل مراحل الصعود ثم التدهور الثقافي العراقي الذي نعيش إفرازاته و تداعياته الحالية ولربما لأمد مستقبلي غير منظور طالما المعارك مستمرة!!

&

[email protected]