&حجم الفواجع العراقية التي تهاطلت على رؤوس العراقيين منذ مرحلة الجحيم التي عاشوها بعد غزو الكويت في صيف 1990 شكلت سفرا خالدا للعذاب الجماعي و للتدمير المنهجي الذي وقع تحت أسره عموم الشعب العراقي بعد مرحلة الحرب التدميرية الأولى عام 1991 و التي أعقبها حصار دولي قاسي و ظالم دفع ثمنه الشعب بكافة فئاته و مكوناته و أنتج أوضاعا سياسية و إقتصادية و إجتماعية و ثقافية بائسة كانت بمثابة إعلان أممي شامل لحرب إبادة حقيقية على أجيال كثيرة من العراقيين الذين نشأؤا في مرحلة الحرمان و الإنقطاع عن العالم و العيش تحت رحمة نظام قاسي لايرحم بدأ بأكل أبنائه بقسوة بعد مغامرة الصهرين ( حسيين و صدام كامل ) و التصدي السلطوي القمعي و العنيف لمحاولات الإنقلاب العسكرية التي قام بها عدد من أشرف رجال العراق لتخليص الشعب من معاناته الطويلة، في ظل الحصار تراجع الأداء الثقافي العام و بات الإهتمام محصورا بملأ البطن بأقل ما يمكن و من أجل مواصلة الحياة وغابت عن بغداد وشوارع العراق بهجة المكتبات والفكر و أنزوى أهل الإبداع في منعزلهم وهم يكابدون الأمرين و تكوم النظام على ذاته فاتحا طريق الجحيم بدخوله عصر الدروشة و تبشيره بحملته الإيمانية الكبرى عام 1994 و التي هي في حقيقتها خروج كامل عن مستلزمات و أسس العقيدة البعثية العلمانية وعن مقررات المؤتمر القطري التاسع للحزب لعاد 1982 و الذي إنتقد الظاهرة الدينية في المجتمع العراقي المعروف بتسامحه و ليبراليته وعزوفه عن التطرف الديني، ولكن إرادة صدام شاءت أن تقلب مفاهيم و دستور حزب السلطة لصالح حالة نفسية مريضة ألمت به بعد هزائمه الثقيلة الخائبة فعممها على المجتمع وحيث برزت الظاهرة الدينية بشكلها المتطرف تغزو المجتمع العراقي بشدة مترافقة مع حملات قامت بها جهات معينة أخذت توزع الأموال من أجل زرع بذور الفكر الديني المتطرف!! وكان ذلك شيئا جديدا و مختلفا بالمرة في مسيرة الحياة المجتمعية في العراق، ففتحت المدارس الدينية و الحوزات أبوابها و تراجعت الثقافة الوطنية و الليبرالية و التقدمية و أنشغلت السلطة في صراعاتها الداخلية الشرسة و الدموية وفي لعبة القط و الفار مع لجان التفتيش الدولية التي شلحت العراق من كل إمكانياته العلمية في ظل حصار منع حتى دخول أقلام الرصاص!! ففي هذه الأجواء الخانقة ينزوي الفكر الحر و تبرز مخالب التطرف،بعد أن باع المثقفون كتبهم و مخطوطاتهم بسعر كيلو لحم!

ثم جاءت حرب ( الحواسم ) عام 2003 وكان النظام منخورا و متهاويا و يابسا سرعان ما تكسر تحت عجلات الدبابات الأميركية التي نفذت خطة الصخرة و الثعبان لتدخل القوافل الصحراوية الأمريكية وهي تحمل الموت مع رذاذ ترابها الرهيب المعفر باليورانيوم المنضب!! في هذه اللحظة من التاريخ توقفت لغة الفكر و الكتاب وبات الحديث عن مرحلة تغييرية قادمة تفاءا بها البعض وصمت عنها البعض وتشاءم منها البعض أيضا!، لقد أفرزت لحظات الغزو و الإنهيار السلطوي ألأولى عودة لغة ( الفرهود ) أي النهب و الإنقضاض الشعبي على مؤسسات الدولة و دوائرها و سرقة الكومبيوترات و تحميلها على ظهور الحمير و البغال.

لقد نهب العراقيون أنفسهم بفعل سنوات الحصار و الحرمان فيما تعمد الأمريكان أسر الجنود العراقيين و جعلوهم يركضون عراة تماما!، لقد عاش العراقيون لحظات تحول تاريخي غريبة لم تحدث أبدا في تاريخهم المليء بالإحتلالات المتنوعة من مغولية و فارسية و تركية و بريطانية أوائل القرن العشرين ثم أمريكية أوائل القرن الحادي و العشرين، في تلك اللحظات لاحديث يعلو على أحاديث القنابل و الرصاص و تقدمت الصفوف الجماعات العراقية الطائفية المسلحة التي كانت تحت الراية الإيرانية و دخلت بأسلحتها إضافة للبيشمركة الكردية لتصادر بيوت كبار رجال السلطة السابقة و ليأخذوا حصصهم الدسمة من ( فرهود الحواسم )! و ليدخل العراق في مرحلة جديدة كان شعارها الحرية وهو ما كان مؤملا قبل أن تتمكن الأحزاب الطائفية بسبب فوضى الأوضاع العراقية و آثار سنوات الحصار الدولي الطويلة من تطويع الأوضاع السياسية و الإجتماعية لصالحها و تفعل المشروع الطائفي المكبوت و الذي تمكن من خلال الفراغ الفكري و السياسي و حالة الحرب و الدمار من فرض رؤاه و قيمه في مجتمع كان مشحونا بتلكم الأفكار، ففي لحظات تبدلت الولاءات و تحول من كان بعثيا و قمعيا متطرفا ليلوذ بحماية خندقه الطائفي أو العشائري فتراجع الفكر و أنزوى المفكرون و أضطر حتى أقدم حزب علماني عراقي وهو الحزب الشيوعي لمداراة الحالة الطائفية و دخول العملية السياسية تحت رايتها وهو أبشع نهاية لمن كان يطلق على نفسه حزب الطبقة العاملة العراقية!! لقد أنزوى ماركس ورفاقه تحت طيات العمائم السوداء و البيضاء!

خلال هذا العقد و النيف الطويل لم يتم إنتاج فكر وطني عراقي بل تم دبلجة و أخراج أفكار طائفية إرهابية من كلا الأطراف المتصارعة، ففي مقابل الإرهابي الزرقاوي و عصابته ظهر لنا ( أبو درع) و زمرته، وفي مواجهة القاعدة برز ( العصائب ) و أمام تحدي المجاهدين برز البدريون، أما الجامعات العراقية فتوقفت عن الإبداع بعد أن هيمن على أمورها الطائفيون الذين لم يجدوا مجالا لبحوثهم و دراساتهم سوى كتابة بحوث تقول بأن النبي العربي محمد (ص) ليس عربيا!! بل هو آرامي و لربما خجلوا أن يقولون بأنه إيراني!

كما أن الأبحاث الجامعية كما تابعتها في مجالات الفكر و السياسة و التاريخ كانت تغلب عليها الروح اللمسات الطائفية!!

لقد تدهور الفكر الإبداعي العراقي في لجة إزدهار المواسم الدينية و عطلها الكثيرة وبات الخلاص من الإرهاب و مشتقاته هو أمل العراقيين، و أضحى المثقف الوطني العراقي رهين المحبسين وأقصى أمنياته أن يطلب اللجوء في بلاد الله البعيدة ليتنفس و يفكر بحرية... لقد عادت السطوة الإرهابية وتم إغتيال المثقفين بدم بارد كما حصل مع الشهيد كامل شياع الذي لم يعرف قتلته حتى اليوم رغم أنهم معروفين!! كما تم مطاردة الإعلاميين و كل صوت يفكر خارج عقلية القطيع الطائفي!! العراق اليوم لا زال يعيش حروبا كثيرة لن تنتهي خلال جيل كما يبشر الحلفاء!! وهذا يعني إستمرار الكارثة التي ستنجب المزيد من الكوارث لوطن ضيعه أهله!

&