خلال مؤتمر حول الاستخبارات نظمته "جامعة جورج واشنطن" في العاصمة الفدرالية الأمريكية يوم الثلاثاء (27 اكتوبر 2015)، ادلى مدير الاستخبارات الفرنسية "برنار باجوليه" بتصريح حول الشرق الأوسط، قال فيه: "الشرق الأوسط الذي نعرفه انتهي الى غير رجعة، نحن نرى سورية مقسمة على الأرض، النظام لا يسيطر إلا على جزء صغير من البلد، أي ثلث البلد الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية. الشمال يسيطر عليه الأكراد، ولدينا هذه المنطقة في الوسط التي يسيطر عليها "داعش" في إشارة الى تنظيم الدولة الاسلامية.&

واضاف المسؤول الأمني الفرنسي قائلا: "الأمر نفسه ينطبق على العراق، لا اعتقد ان هناك إمكانية للعودة الى الوضع السابق. المنطقة ستستقر مجددا في المستقبل، ولكن وفق اية خطوط؟ في الوقت الراهن لست اعلم، ولكن في مطلق الأحوال ستكون مختلفة عن تلك التي رسمت بعد الحرب العالمية الثانية.

أما مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) "جون برينان" الذي شارك ايضا في المؤتمر، فقد ادلى بتصريح وكأنه يؤكد على صحة تصريح زميله الفرنسي، حيث قال: "عندما انظر الى الدمار في سورية وليبيا والعراق واليمن، يصعب عليَ ان اتخيل وجود حكومة مركزية في هذه الدول قادرة على ممارسة سيطرة او سلطة على هذه الحدود التي رسمت بعد الحرب العالمية الثانية.

هذه التصريحات لم تأتي بشيئ جديد، بل اكدت ما هو واقع فعلا على الأرض منذ فترة، فالعراق عمليا يدار من قبل ثلاث حكومات، حكومة حيدر العبادي، وحكومة مسعود البرزاني وحكومة ابو بكر البغدادي، وكل حكومة منفصلة عن الأخرى، وهذه الحكومات عمليا في حالة حرب مع بعضها البعض معلنة او مستترة. والوضع في سوريا لا يختلف كثيرا عن العراق، فالحكومة في دمشق لا تسيطر فعليا إلا على ثلث مساحة سوريا، والمساحة الباقية يتقاسمها الأكراد والجماعات المسلحة المرتبطة بدول اقليمية ودولية، وجميع الأطراف في حالة حرب مع بعضهم البعض. وفي حال الوصول الى تسوية سياسية (من الصعب التكهن بالفترة الزمنية التي تفصلنا عنها) سيطالب الأكراد بالحكم الذاتي في مناطقهم أسوة بإخوتهم في العراق، وهي الخطوة الاولى التي تسبق الانفصال والفراق.&

وما يحدث في اليمن مشابها لما يحدث في سوريا، ولا اعتقد شخصيا ان جنوب اليمن سيبقى طويلا ضمن اليمن الموحد، وقد لا يطالب بالانفصال مباشرة بعد ان تضع الحرب الدائرة حاليا اوزارها، ولكن ربما يسبقها بخطوة واحدة، اي المطالبة بالحكم الذاتي اولا، وحق تقرير المصير لاحقا عبر الاستفتاء كما يخطط الأكراد العراقيون. والوضع في ليبيا ليس بأحسن حال من الدول المذكورة، فالحرب الأهلية القبلية لا زالت تأكل الأخضر واليابس ولا يبدو في الأفق القريب ما يبشر بالخير، مما دفع بالأمين العام للأمم المتحدة "بان كي مون" الى تعيين الدبلوماسي الالماني "مارتن كوبلر" مبعوثا دوليا جديدا خلفا "لبرناردينو ليون" الذي باءت جهوده للتوصل الى اتفاق سلام بين الليبين بالفشل.&

في اعتقادي الشخصي، ان هذه التصريحات الصادرة من أشخاص يديرون اجهزة المخابرات في دول عظمى لم تأتي من فراغ، بل ربما القصد منها تهيئة الأجواء في المنطقة العربية لتنفيذ خطة الولايات المتحدة الأمريكية لتغيير خارطة المنطقة العربية، وتمكينها من تحقيق مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي كانت تروج له "كونداليزا رايس" رئيسة الدبلوماسية الأمريكية في عهد "بوش الإبن"، ما يعني خلق دول جديدة في المنطقة على أسس مذهبية واثنية وطائفية من رحم دول اخرى عربية وغير عربية.

ما يشجع الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين على السير في تنفيذ خطتهم هذه، هي قناعتهم بأن الشعوب العربية اصبحت شعوبا متنافرة، كارهة لبعضها البعض ولن تتوانى عن تدمير اوطانها، وهذا في الواقع من فضائل انتفاضات الربيع العربي التي كشفت عن حقائق جوهرية تتعلق بالواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي العربي، ومن اهم هذه الحقائق ان القومية العربية لم تعد تعني للكثيرين ما كانت تعنيه قبل زهاء ستون عاما، أي كهوية جامعة. كما ان الولاء للوطن ما عاد يمثل قيمة انسانية واخلاقية لدى الكثيرين، بل حلَ محله الولاء للمذهب والطائفة والعشيرة والقبيلة.&

حقا الشرق الأوسط لن يعود كما كان، وانفصال جنوب السودان في التاسع من شهر يوليو عام 2011م كان البداية وليس نهاية الطريق.