كتبت المؤرخة البريطانية كارن ارمسترون في كتابها، تاريخ الاله وبحث اربعة الاف& سنة في اليهودية والمسيحية والاسلام، تقول: "عاش المسيحيون واليهود والمسلمون في تناغم نسبي، لاكثر من 500 سنة، في الاندلس." كما كتب أيضا الصحفي الاسرائيلي، أوري أفناري، عن تاريخ الاندلس فقال: "ترجم العلماء المسيحيون، واليهود، والمسلمون، معا النصوص الفلسفية والعلمية الاغريقية، فقد كان فعلا ذلك عصر ذهبي." وأكد مؤرخوا الغرب أيضا في الكثير من كتاباتهم بأنه: "حينما خيروا اليهود في الاندلس بين البقاء وتحولهم لمسيحيين، من قبل الملك فرناند الثاني، او تركها، احتضنتهم شعوب منطقة الشرق الاوسط، بادرع تعاطفية." فمن خلال هذه الكتابات يبين لنا التاريخ، بأن اليهود عاشوا في تناغم نسبي مع المسيحيين والمسلميين في المجتمعات الشرق أوسطية، عكس ما عانوه في المجتمعات الغربية في القرون الوسطى.
وبعد أن عانوا اليهود في المجتمعات الغربية في القرن التاسع عشر من التفرقة، لاسباب واهية كثيرة، برزت هذه المعاناة في محاكمة الضابط الفرنسي اليهودي، الفريد ديفريس، في عام 1894، والتي انتهت بالحكم عليه بالسجن مدى الحياة، حيث اتهم، ظلما، بانه نقل اسرار عسكرية فرنسية إلى السفارة الالمانية في باريس. وقد كانت هذه القضية قضية رأي عام كبيرة في فرنسا، واستمرت من عام 1894 وحتى عام 1906، حيث تم اتهام الضابط ديفريس، بخيانة وطنه، وتم سجنه، ولكن حينما أعيدت محاكمته، بعد ضغوط الرأي العام الفرنسي، انتهت المحاكمات بتبرئته، بعد اكتشاف الخائن الحقيقي، وليعتذر الجيش الفرنسي له في عام 1906، ولترفع درجته بعدها إلى جنرال في الجيش الفرنسي، وعمل حتى نهاية الحرب العالمية الاولى، ومات في عام 1935.
وقد كانت لهذه القضية دورا هاما في ابراز معاناة اليهود الاوربيين في القرن التاسع عشر، مع بدأ الحركة الصهيونية، التي تزعمها الصحفي الفرنسي الهنجاري، ثيودو هرتزل. فقد بدأ هرتزل حلم شبابه، بالرغبة لكي يصبح ناجحا، كمثله الاعلى، فرناند دي ليسبس، المهندس الفرنسي الذي صمم قناة السويس، ولكنه لم ينجح في دراسة العلوم الطبيعية، فتوجهه نحو العلوم الاجتماعية، والذي نتج منها نجاحه في الصحافة. ودرس هرتزل في عام 1878 الحقوق بجامعة فينا، وعمل بالصحافة، بعد انهاء دراسته في فينا وباريس، وقد ولد في عائلة يهوديه، ولكن كان يعتبر نفسه يساري، غير متدين. وقد تابع هرتزل، في باريس، قضية الضابط الفرنسي اليهودي، الفريد ديفريس، كما راقب بعدها مظاهرات باريس، وهي تنادي، بالموت لليهود، وقد ادى ذلك لتغيير رأيه عن ضرورة اندماج اليهود في المجتمعات الاوربية، الى ضرورة ترك اليهود اوروبا، وتأسيس وطن قومي لهم. وقد ادت محاكمة ديفريس الظالمة، لغضب هرتزل، وهجرته إلى بريطانيا، حيث بدأ كتاباته عن الدولة اليهودية، لينتهي منها بتطوير الحركة الصهيونية. ويبدو بان الافكار العنصرية للسياسي النمساوي، كارل لوجر، التي نشرت في عام 1895، والذي عرف بكرهه لليهود، والذي يعتبر الاب الروحي للنازية، كان لها تاثير كبير على حياة هرتزل، حيث قرر بانه لا يمكن محاربة العداء للسامية في اوروبا، بل اعتقد بضرروة إنشاء وطن قومي لليهود. وقد كتب قصته، الجيتو الجديد، كما كتب في عام 1895 كتاب، الدولة اليهودية، والذي نشر في عام 1896، وناقش فيه بان على اليهود ان يتركوا اوروبا، وينتقلوا الى الارجنين، او الافضل الى فلسطين، دولتهم التاريخية، ليمارسوا دينهم بحرية، ويستمتعوا بثقافتهم اليهودية.
وقد انتشرت افكار هرتزل بسرعة في الغرب، وتشجع بعض اليهود لها، بينما عارضها معظم يهود اوروبا الغربية، لحب بقائهم في أوروبا. وقد اعتقدت منظمته الصهيونية بان فلسطين ارض اسرائيل، التي وعد بها الانجيل لليهود، وقد طردوا منها في عصر احتلال البابلين لها في عام 586 قبل الميلاد. وقد كان في ارض فلسطين عام 1850 ما يقارب 350 الف، و 85% منهم كانوا مسليمين، و 11% مسيحيين، بينما كان يمثل اليهود 4% فقط. وقد ناضل اليهودي الثري ، جوداه تورو، في عام 1850، لجمع المال، لدعم مستوطنات يهودية في فلسطين، كما عين مؤسس مونتيفيور، لتنفيذ بناء المستوطنات، وعمل على نقل الطبقة العاملة اليهودية من بولاندا، ولثوانيا، ورومانيا، والامبراطورية العثمانية، الى فلسطين، واستمر ذلك منذ عام 1879 وحتى عام 1882. كما دفع القانون المضاد للسامية، التي اصدره القيصر الكسندر الثالث، في روسيا في عام 1882، الى هجرة مليونين يهودي من عام 1880 وحتى عام 1920، مع أن معظمهم هاجروا للولايات المتحدة، ولكن بعضهم هاجر إلى فلسطين.
والجدير بالذكر بانه بعد اغتيال القيصر الكسندر الثاني، في عام 1881، بعد ان حكم روسيا وبولاندا وفندلاندا، حيث كان بروسيا قلة من اليهود، حتى استولت حكومة القيصر على مستوطنات جديدة، خارج روسيا، تحتوي على عدد كبير من السكان اليهود، وذلك خلال عام 1791 وحتى عام 1835. وقد اعتبرت هذه المستوطنات مستوطنات يهودية منبوذة من الحكومة الروسية، والتي سمح لليهود بالعيش فيها، مع منعهم من الانتقال إلى باقي اجزاء الامبراطورية، الا بعد ان يتحولوا لمسيحيين اورثودوكس. وقد تصاعدت الحملة ضد اليهود في روسيا، بعد اتهامهم باغتيال القيصر الكسندر الثاني، بعد أن اكتشف بأن احد زملاء القاتل، جسي جلفمان، قد ولد في بيت يهودي، مما أدى ذلك لاتهام جميع اليهود بعملية الاغتيال، والذي نتج منه هدم الالاف من& منازل اليهود، ولتتعرض الكثير من العوائل اليهودية للقتل وللفقر، وخاصة في الجنوب، كاوكرنيا. وقد استمرت مذابح اليهود في عام 1881 في مدينة كييف، ولتمتد لباقي مدن اوكرنيا، مما أدى لتأسيس منظمات يهودية مقاومة في اودسا، وقد اتهم القيصر الكسندر الثالث، الثوار و اليهود، بأنهم وراء الاضطرابات العمالية. وفي شهر مايو من عام 1882، صدر قانون مضاد للسامية، والذي استمر لمدة ثلاثين عاما، حيث حدد هذا القانون مكان سكن اليهود، ومنعهم من الحصول على قروض اسكانية، أو ممارسة التجارة يوم الاحد، كما حدد عدد اليهود الذين يمكنهم الانضمام للمدارس والجامعات، وقلل أيضا نسبة عدد الاطباء والمحاميين العاملين في الدولة. كما منع القانون الجديد اليهود من بيع الكحوليات، واغلقت بعض معابدهم، ونقل الكثير منهم الى خارج موسكو.
وفي عام 1891، منعت القيادة الروسية اليهود من المشاركة في الانتخابات، وخاصة في المدن التي كانوا يمثلون الاكثيرة فيها، مما ادى للاقلية المسيحية لحكم الاكثرية اليهودية، كما صدر قانون بمعاقبة اليهود الذين يستخدمون اسماء مسيحية، بل أصر القانون على أنهم يستخدمون اسماءهم وقت الولادة، في التجارة، والكتابه، والاعلانات، وعلى بطاقاتهم الشخصية. وقد استمر هذ القانون حتى عام 1917، والذي دفع لموجة هجرة يهودية كبيرة للخارج،& كما عارض الرئيس الامريكي، بجيمان هاريسون، اضطهاد اليهود الروس،& بينما بدأ اليهود الغربيين في التفكير للهجرة لمنطقة الشرق الأوسط. وقد بدأ هرتزل عمليا الدفع بافكاره حول وطن قومي لليهود، بعد أن قابل في عام 1896 الوزير الانجيليكي القس، وليم هشلر، بالسفارة البريطانية، في فينا، والتي أدى لشرعنة شخصية هرتزل، وافكاره الصهيونية رسميا. فقد حاول القس هشلر، من خلال السفارة البريطانية بالقسطنطينية، ارسال رسالة من الملكة فكتوريا إلى السلطان التركي، تطالب بالسماح لليهود للرجوع لفلسطين، ولكن رفض السفير البريطاني تقديم الرسالة للسلطان. وقد كتب القس هرشل في عام 1884، مقال ينادي فيه برجوع اليهود لفلسطين، كشرط لرجوع المسيح من جديد، كما أكد في كتاباته بان من واجب كل مسيحي ان يحب اليهود، واعلن رفضه لفكرة الاعتقاد بان على اليهود التحول للمسيحية، لكي يرجعوا لفلسطين، كشرط للتهيئة& لرجوع المسيح.
وقد اعلن هشلر بان الحركة الصهوينية لهرتزل هي حركة انجيلية، وحاول ان يدفع بها بقوة كقضية مقدسة للقيصر الالماني، حيث كان هرتزل يريد ان يوصل مشروعه الصهيوني للقوى الاوربية، من خلال القصر الامبراطوري الالماني. وقد نجح هرتزل اخيرا من خلال القس هشلر، ان يلتقي بالدوق الاكبر الالماني،& ويقنعه بفكرته، والذي تشجع، ودفع بها للقيصر فيلهلم الثاني، لدعم هرتزل والصهيونية.& وقد استمر هشلر خلال عام 1897 بالدفع بافكار هرتزل في العالم المسيحي، وفي عام 1897 نظم هرتزل المؤتمر الاول للكونجرس الصهيوني، في باسيل، بسويسرا، ودعا القس هشلر، وقدمه كاول صهيوني مسيحي. وقد نجح هشلر من خلال السفير الالماني في النمسا، والتي كانت زوجتة طالبة لدي هشلر، ان يقدم هرتزل للقيصر الالماني.
وحينما نظم في عام 1898 القيصر الالماني، فيلهلم الثاني، زيارة لفلسطين، لزيارة المستوطنات الالمانية، ليدعم الكنسية المسيحية فيها، رتب القس هرشل، موعد لهرتزل مع القيصر الالماني في 15 اوكتوبر من عام 1898، خلال توقفه في القسطنطينية، في زيارة رسمية. وحينها سأل القيصر هرتزل عما يريد منه أن يطلب من السلطان العثماني، فطالب لاقرار شراكة ميثاق، لكي يعود اليهود إلى فلسطين، بحماية المانية،& وقد رفض السلطان العثماني ذلك الطلب مرتين، وحتى لو دفع اليهود الديون الخارجية التركية. كما انتظر هرتزل علنا مرة أخرى القيصر الالماني في 29 اوكتوبر من عام 1898، في مستوطنة زراعية، مدعومة من مؤسسة روثشايلد، في طريقه للقدس، فوقف القيصر وتحدث معه، واخذت صور، برزت في الصحافة، وكان ذلك اعتراف ضمني رسمي بهرتزل ومنظمته الصهيونية، من قوة عظمى اوروبية. وفي نوفمبر من نفس العام ذهب هرتزل، مع مندوبي المؤتمر الصهيوني، لزيارة القيصر الالماني في القدس، وقد استقبله القيصر علنا، ولكن اكتشف هرتزل منه رفض السلطان العثماني لطلبه، كما فقد القيصر بعدها الرغبة في هرتزل ومشروعه الصهيوني. وقد حاول هرتزل بعد فشله في المانيا للوصول للعائلة الملكية البريطانية، ولم يفلح، حتى موعد المؤتمر الخامس للكونجرس الصهيوني، حيث توفي في عام 1904. وقد تمت محاولات كثيرة في التاريخ المعاصر لايجاد وطن قومي لليهود، خارج أوروبا في مختلف قارات العالم، من افريقيا، الى اسيا، الى امريكا اللاتينية، بل وحتى امريكا الشمالية.
وقد كانت منطقة الشرق الاوسط في عام 1914 مقسمة لاجزاء، تسيطر عليها الامبراطورية البريطانية، والامبراطورية العثمانية، والروس، حتى تقدم في شهر سبتمبر من عام 1917 الطبيب اليهودي الفرنسي، أم. أل. روثستين بطلب للامبراطورية البريطانية يدعوها لتوفير الدعم، لتنظيم جيش يتحرك من البحرين لفتح الأحساء، لتأسيس دولة يهودية في الخليج. وقد رفضت الحكومة البريطانية في اكتوبر من نفس العام هذا الطلب، ولكن في شهر نوفمبر من عام 1917، ارسل ارثر بلفور، رسالة من وزارة الخارجية البريطانية، للورد اليهودي الاورربي الثري روثشايلد، يخبره فيها: "بغبطة، وبأسم حكومة صاحب الجلالة ملك بريطانيا، اعلن التعاطف مع الطموحات اليهودية الصهيونية التي قدمت، حيث وافقت عليها الحكومة البريطانية، وأكدت حكومة صاحب الجلالة بأنها، تنظر لصالح إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستستخدم خيرة امكانياتها، لتسهيل تحقيق هذا الهدف. وليكن مفهوما بضوح، بأنه لن يحدث أي شيء يؤدي، بالتحيز ضد الحقوق الدينية والمدنية للمجتمعات الحالية الموجودة في فلسطين، أو الحقوق والوضع السياسي الذي يتمتع بها اليهود في اية من بلدان الاخرى. واكون شاكرا لو انك اخبرت الفيدرالية الصهيونية بهذا الاعلان." وقد عاش العالم بعد هذا الاعلان الحربين العالميتين، وقد ناضل في الحكومة البريطانية البروفيسور الصهيوني البريطاني ويزمان، من أصول بلروسيية، للوصول للاعتراف بدولة يهودية في فلسطين، كما دفع باللوبي الصهيوني اليهودي بقوة، لدعم الحكومة الامريكية للاعتراف بدولة إسرائيل. وفعلا دفع الرئيس ترومان، في عام 1948، الامم المتحدة، باعلان تأسيس دولة اسرائيل، برئاسة ديفيد بنجوريون، بعد أن تعرض لضغوطات اللوبي الصهيوني الأمريكي والغربي، وخاصة لخوفه من من فقد اصوات اليهود في انتخابات الرئاسة الامريكية في ذك الوقت.
وقد أدى تأسيس دولة إسرائيل لحروب "انفعالية غير مدروسة" مع العرب، وترافق بأفواج متكررة من اللاجئين الفلسطينين، مع تزايد ضم الاراضي الفلسطينية للدولة العبرية. ويمر هذا العام على تأسيس اسرائيل 67 عاما، والذي برز فيه تحدي حاد من رئيس الوزراء الاسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ضد حكومة الولايات المتحدة، بعد أن أعلن في وسط الكونجرس الامريكي تحديه، ضد الاتفاقية النووية الدولية مع أيران، بعد محاولاته الكثيرة لحرب مدمرة على ايران، كالتي قادها مع اللوبي الصهيوني في تدمير العراق، معارضا بكل كبرياء الرئيس الامريكي اوباما، كما يبدو مؤخرا بأن العالم امام انتفاضة سكاكين فلسطينة جديدة. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: ما هو مستقبل إسرائيل في القرن الحادي والعشرين؟ وما هو وضع اللوبي الصهيوني الامريكي (الايباك) في الولايات المتحدة، الذي هو السبب الأساسي لرعونة السياسة الإسرائيلية في الشرق الأوسط؟ وما مستقبل العلاقات الاستراتيجية الامريكية الاسرائيلية؟ وكيف سيكون مستقبل المنطقة بعد رفض المتطرفين في الحكومة الاسرائيلية لاتفاقية السلام؟ ولنا لقاء.
&

د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان