بعد الكشف عن أربعة من أصل خمسة متهمين متورطين في تنفيذ الاعتداءات الارهابية الأخيرة في فرنسا، اتضح للسلطات هناك أنهم مسلمون فرنسيين من أصول عربية، وهذا الأمر ينطوي على العديد من الدلالات أهمها وأخطرها بالنسبة للغرب على الإطلاق أن تنظيمات الارهاب نجحت في إحداث اختراق نوعي باستقطاب عناصر جديدة من الأجيال الجديدة من مسلمي الغرب، مايضع مئات الآلاف من المسلمين في هذه الدول في مأزق جد خطير ما لم يتم تداركه والعمل بدقة ووعي شديدين على الفصل بين الاسلام والعناصر التي تعتنق الفكر المتطرف.
يقول أحد زعماء مسلمي فرنسا تعليقاً على الاعتداءات الأخيرة أن الانعكاسات ستكون وخيمة على المسلمين الفرنسيين من أصول عربية، معتبراً أن هذا الأمر "ليس سوى ثمار تقاعس علماء الدين والسياسة ورؤساء الجمعيات والمنظمات عن رفض الخطاب الديني الأيديولوجي الذي يقدس الارهاب والعنف"، وهذه "الرسالة" الواردة في تصريحاته هي أحد أهم الدروس المستفادة في الاعتداءات الارهابية التي هزت دول عدة في الفترة الأخيرة، ابتداء من تفجير الطائرة الروسية فوق سيناء المصرية وصولاً إلى اعتداءات فرنسا.
سواء كان الفاعل الحقيقي في التفجيرات والاعتداءات الارهابية الأخيرة تنظيم ارهابي واحد أم تنظيمات مختلفة، فإن المسؤولية في جميع الحالات واحدة تقريبا، وهناك جانب منها يقع على الساسة وصانعي القرار المترددين في مكافحة الارهاب أو ممن يتسترون خلفه لتحقيق أهداف ومصالح سياسية أو من يتخذونه مطية أو أداة في لعبة الصراع الأممي والعلاقات الدولية، وهناك جانب من هذه المسؤولية يقع على كاهل "المعتدلين" المسلمين وتحديداً علماء الدين وكافة المسؤولين عن نشر الوعي الصحيح والفهم المستنير للدين الاسلامي الحنيف.
كنت قد كتبت من فترة عن مسؤولية المعتدلين وحذرت من خطورة صمتهم وحيادهم الذي يصب مباشرة في مصلحة الصوت الارهابي المتطرف، فليس خافياً أن المعتدلين والمؤسسات الدينية في العالمين العربي والاسلامي لا تقوم بما هو منتظر منها في هذه المعركة المصيرية للمسلمين والاسلام ذاته، وغالباً ما تكتفي هذه المؤسسات ببيانات الشجب والادانة التي تعقب كل جريمة ارهابية، ويبدو أنها اصيبت بالعدوى من مؤسسات العمل الجماعي السياسي على المستويين العربي والدولي، حيث وجد كل هؤلاء في موقف "رد الفعل" راحة لهم، ولم تنتقل أي من هذه المؤسسات إلى المبادرة وموقف "الفعل الاستباقي" أو حتى الوقائي.
وحتى نكون منصفين أمام الله والتاريخ، فإن علينا كمسلمين ممارسة نقد الذات في أقصى درجاته كي نضع أيدينا على الجرح ونطهره بشكل حقيقي، ونكتشف مواضع الثغرات ونعالجها، ومن ثم فإن الموضوعية تقتضي القول بأن "معظم" الجهود التي تبذل على المستويين الفكري والتوعوي من أجل مكافحة الارهاب هي جهود لا تصيب الهدف ولا تحقق المراد، وما زال "داعش" وأفكاره يحققون الانتشار، ويكسبون أرضاً جديدة ساعة بساعة في الفضاء الالكتروني.
لا أقصد بطبيعة الحال تحميل المعتدلين مسؤولية انتشار التطرف بأكملها، فهذا أمر غير صحيح على الإطلاق، ولكن كان بمقدور المعتدلين تقديم اسهامات جدية على صعيد الحد من انتشار هذه الظاهرة البغيضة لو أخذوا زمام المبادرة وقدموا نموذجاً فكرياً مغايراً قادر على التصدي لصوت التطرف، وكسب ثقة الشباب ونشر بالوعي بأن آفات التنمية في العالم العربي والاسلامي وأمراض التهميش الاجتماعي في الغرب لن تعالج بقتل الابرياء ولن يكون طوق النجاة منها تشويه صورة الاسلام والزج باسمه في جرائم لا علاقة له بها، فالاسلام أسمى من أن يرفع اسمع على رايات مخضبة بالدماء وأكتاف لتحمل أسلحة تستهدف المدنيين والأبرياء.
ولنضرب مثالاً بمفهوم "الجهاد" في الحديث عما أقصده من جهود منتظرة من المؤسسات الدينية المعتدلة في العالمين العربي والاسلامي، فهذا المفهوم الديني ترك للعامة والجهلاء بل وكل من مر أمام مكتبة وكل من صادف كتاباً فقرأه سواء فهم أم لم يفهم كي يدلي بدلوه في شرح هذا المفهوم وتفسيره وتوضيح شروطه والآراء الفقهية كافة الواردة فيه وظروف كل رأي منها والبيئة الزمنية والمكانية التي قيل فيها وما يمكن ان يقال في تفسيره في ضوء ما يعرف بفقه الواقع، ومن ثم كانت النتيجة هذا الطوفان الجارف من الفتاوى اللادينية والكم الهائل من العبث بهذا المفهوم الديني، وقس على ذلك كثير من المفاهيم والأحاديث والآيات القرآنية التي لحق بتفسيرها التشوه وانحرف بمقاصدها أشباه العلماء وصبيان التطرف حتى صرنا إلى ماصرنا إليه من أجواء كارثية بكل معنى الكلمة وما تعنيه.
كنت في مقال سابق قد طرح سؤالاً ولم أجد رداً له ومفاده: هل يدرك المعتدلون تأثيرات موقفهم السلبي؟ وهل يثق هؤلاء في أن الفشل ليس خياراً في الصراع مع التطرف والإرهاب؟! هنا أيضاً استعيد مقولة مارتن لوثر كنج الشهيرة التي قال فيها "إن أسوأ مكان في الجحيم محجوز لأولئك الذين يقفون على الحياد في أوقات المعارك الأخلاقية العظيمة"، وربما لا اتفق مع هذه المقولة في شقها الديني المتعلق بالجنة والنار ومن هو مذنب وبرىء من وجهة النظر الدينية فتلك لها الله يوم الحساب ليفصل فيها، ولكن علينا في هذه الحياة الدنيا أن نقرر ما نراه صائباً وفق ما منحنا المولى عزو وجل من قدرات عقلية وفكرية، ولذا فقد قصدت فقط الاشارة إلى خطر الحياد في المواقف المأزومة والمفصلية، فالكل يعتمد على الكل وهناك نوع من التخاذل وهناك قدر من الانتهازية والبحث عن المصالح الفردية في معركة تخص مستقبل أمة باكملها، فكانت النتيجة، وستظل، انزلاق إلى فخ الحياد السلبي والصمت التام أو الصراخ والضجيج من دون خطط واضحة أو استراتيجيات توعوية مرسومة بدقة وتقاس نتائجها وآثارها بشكل علمي من أجل تصويب مسارها وتصحيح أخطائها واستبدال مالا يلزم بما يلزم.
أدرك تماماً أن مفهوم الاعتدال ذاته محاط بقدر من الغموض بمعنى أن هناك تساؤلات حول ما يعنيه الاعتدال ومن يحدد المعتدل من المتطرف، وهل الاعتدال قرين للمؤسسات الدينية الرسمية فقط أم هناك معتدلون آخرون، ثم هل المعتدلون مؤسسات فقط أم أفراد؟ وماهو الإطار المؤسسسي الذي ينبغي على المعتدلين التحرك فيه ومن خلاله؟ ومن يحدد أطر هذا التحرك كي لا تصاب بآفة التكرار والعشوائية وعدم التخطيط؟.
هذه التساؤلات وغيرها هي تساؤلات مشروعة واجاباتها ضرورية من أجل الامساك بخيط العمل الجاد على الصعيد الفكري لمكافحة الارهاب، فربما يكون من المؤسف أن تنظيمات الارهاب تعمل بشكل إعلامي منظم يفوق الكثير من المؤسسات الدينية الرسمية! فداعش على سبيل المثال يمتلك منصات الكترونية ذات فاعلية اتصالية تفوق معظم& ـ إن لم يكن جميع ـ المؤسسات الدينية الرسمية قاطبة!.
ربما يغضب كلامي البعض، وربما يستفز آخرون، ولكن ما نراه من فوضى وعشوائية في التصدي للارهاب على الصعيد الفكري والتوعوي يستحق وقفة جادة من أجل ديننا الحنيف ومستقبل الأمن والاستقرار في عالمنا العربي والاسلامي ولمصلحة المسلمين في العالم أجمع، فلا فرصة لنجاح أي جهود أمنية وعسكرية ما لم توازيها جهود فكرية مخلصة لتجفيف منابع الارهاب وتصحيح مسار الدعوة والدعاة وتخليص الخطاب الديني المختطف وتحريره وتنقيته.

&