من المصطلحات السياسية او الامنية الشائعة هو الامن القومي وما يتبعها من توضيح، كأن نقول الامن القومي العراقي او العربي او الاميركي، ولكي لا نغبن اميركا واوربا وغيرها من الدول الكبرى، ونقارن امنها القومي بلافتة الامن القومي العربي، فعلينا ان نفكك ماذا يعني هذا المصطلح ومدى تطابقه مع واقع الحال. قد يمكن تعريف الامن القومي بضمان الاستقرار والسلام في بلد ما، وفي ضل هذا المفهوم يمكن ادراج عدد كبير من الخطوات التي يجب ان يتم اتخاذها وكذلك توفير الكثير من المستلزمات لتحقيق ذلك. ومنها على سبيل التذكير الامن الغذائي، حيث ان قلة الغذاء او شحته سيخلق بلبلة في البلد ويوفر ساحة خصبة لاي كان لكي يتدخل في شؤونه ومن ثم فرض شروطه لتحقيق مصالحه، وهكذا بالنسبة للامن المائي، وامن المواصلات وامن التطور العلمي والبناء والتنمية، والقدرة على الدفاع عن البلد ضد الاعتدات الخارجية يعتبر اوضح مثال عن الامن القومي.

منذ الحرب العالمية الثانية، لم يتم الكشف عن قدرات الامن القومي لاغلب الدول الكبرى بشكل عملي، لانها وببساطة تمكنت من ان تدفع المشاكل او اغلبها عن محيطها المباشر وليس عن الداخل فقط، ولكن هذا الابعاد بلا شك، يعتبر بحد ذاته نجاحا فذا في الامن القومي لهذه الدول من جهة ولكن يوسع مفهوم الامن بالنسبة لها ليشمل مديات اوسع من الناحية الجغرافية على الاقل. في حين ان واقع بعض المناطق او الدول او المنظومات القومية يعتبر وبلا ادنى شك فشلا ذريعا في تحقيق مقولة الامن القومي، لانها اتخذت من شعار الامن القومي يافطة دون مضمون. فلو لاحظنا عملية تكديس الاسلحة في منطقة الشرق الاوسط، والتي غالبيتها العظمى مستورد، لوجدنا ان مصير الدول المستوردة مرهون بارادة مصدر الاسلحة، واذا قلنا ان المستورد يمكن ان يهدد بتغيير جهة الاستيراد، كرد فعل لاي تهديد علني او مبطن، فان هذه التهديد لا معنى له في عالم السياسة لانه يعني تغيير جهة الارتهان، هذا فضلا ان تكاليف تغيير نوعية التسليح تتضاعف عدة مرات في هذه الحالة. ليس هذا ولكن من تجربة السنوات الخمسة والعشرون الماضية، نرى ان الكثير من الدول التي كانت تعج بالاسلحة المختلفة، والتي كانت تستغل هذه الاسلحة لتهديد الاخرين وخارج اطار الدور المرسوم لها، فرض عليها ونتيجة هذا اللعب الغير المدروس، ان تقوم بتدمير ترسانتها من الاسلحة المستوردة من السوق السوداء وبتكاليف مضاعفة، وان تدفع تكاليف التدمير ايضا.

نعم الكثير من الدول اتخذت من التسلح، رغم كونه مستورد، الاساس الوحيد، لتحقيق الامن القومي لبلدها، واهملت اهم الجوانب الاخرى، مثل التعددية السياسية، والمساواة، وضمان وحماية المكونات المختلفة، وترسيح اسس الوحدة الوطنية (اي الاستقرار السياسي)، ووضع برنامج للتنمية الاقتصادية، يلاحظ، تنمية مختلف جوانب الاخرى مثل ضمان الامن المائي وطرق المواصلات، وحماية الزراعة وتنويعها وضمان الامن الغذائي (الامن الاقتصادي)، وجيش ينتمي للوطن وليس لطائفة او لايدولوجية معينة، خاضع لقيادة سياسية عقلانية لا ترميه في حروب لا طائل منها وليست دفاعا عن الوطن او عن تحالف اساسي يحمي الوطن (الامن العسكري).

في نظرة فاحصة لواقع البلدان العربية، كوحدات او كمجموع، نرى ان الامن القومي هو يافطة مهترئة، وليس له في ارض الواقع اي وجود، بل هو مصطلح يستعمل على الاكثر لافهام المتلقي ان المتكلم يفهم في امور لا يمكن للمتلقي ان يعيها، او هي اعلى من ادراك عقله الواعي. ففي هذه البلدان ليس الصراع الداخلي صراعا سياسيا، حول البرامج او حتى حول سؤ الادارة، بل ان الصراع في الغالب هو صراع وجود، كل طرف يصارع الطرف الاخر بحثا عن وجود مستقل وظاهر له، ويريد ان يفرض ارادته على المقابل، اما لانه يعتقد نفسه الاكثر احقية بالوجود والزعامة، او لانه يعتقد نفسه ضحية لاضطهاد مستمر. هناك صراع قومي، نتيجة قيام الاكثريات العربية في فرض قيمها وتطلعاتها ونظرتها على الحياة السياسية على هذه البلدان، في ابعاد شبه تام للاخرين عن هذه السياسية ليس تطبيقا، بل حتى في القول والنصح واظهار رؤية مغايرة. فقد تم استغلال موراد الكثير من بلدان الدول (العربية) في حروب داخلية لضرب حركات تطالب بالانصاف، وتم قتل واعتقال الكثير من ابناء الوطن بحجة انهم مناصرين للانقساميين او الشعوبيين او الطائفيين. مما خلق فجوات وحالة الكره والرغبة في الانتقام كل طرف من الطرف الاخر. ليس هذا فقط، بل تم في اغلب الدول العربية سلخ شريحة من ابناء الوطن بحجة كونهم من ديانة معينة، (اليهود مثالا) وطردهم والاستيلاء على ممتلكاتهم، وفي العراق الذي كان سباقا في هذا الامر منذ عام 1933 حينما تم تخيير الالاف من الاشوريين بين الرضوخ لما تخطط له الحكومة او الخروج من الوطن، وتم نفي عائلة بطريرك كنيسة المشرق حينها، وتم اسقاط الجنسية العراقية عنهم، وتلتها عملية اخراج اليهود وما تبعها وتلتها الحرب الطويلة والتي امتدت اغلب سنوات القرن العشرين مع الكورد والمتحالفين معهم. وهذه الامثلة يمكن ان تطبق بسهولة على اغلب الدول العربية، والعجيب انها دول تتغنيى ليل نهار بتاريخها الحضاري الطويل، ولكنها لم تتمكن من استيعاب ابناء الحضارات المتعددة التي ابثقت على نفس الارض، بل حاولت صهرها بالقوة.

في ظل مثل هذه الاوضاع هل يمكن حقا الحديث عن الامن القومي؟&