ليس جديدا أن يكون العراق ومنذ عشرات السنين أحد البلدان التي تحظى باهتمام دولة عظمى مثل الولايات المتحدة الأميركية، وليس غريبا أن تنشط هذه الدولة في العراق بطرق وأساليب مختلفة، علنية وسرية، لكن ما يستغربه المتتبعون هو كيفية تعامل الجانب العراقي مع هذه الدولة. لم نلحظ إطلاقا خلال العقدين الماضيين أية سياسة عراقية مدروسة وذكية قد تعاملت أو تتعامل مع هذا الملف الحيوي الذي يؤثر على مصير العراق ووحدته.
& نقرأ ونسمع هنا وهناك تصريحات متنوعة على ألسنة برلمانيين ورجال دين عراقيين وحتى مثقفين تندد بمقترح "مشروع نيابي أميركي" لشرعنة التعامل المباشر مع أطراف غير حكومية عراقية في مواجهة "داعش"، والتطرف من خلال دعمها ماليا وإعلاميا وتسليحها مباشرة دون الرجوع إلى الحكومة المركزية، يعني التعامل مع هذه الجهات كدول أو كيانات مستقلة. رغم سحب هذا المقترح في مجلس النواب الأميركي إلا أنه وضع على الرف باعتقادنا إلى حين توفر ظروف تحريكه من جديد. وهو وإن سحب إلا أنه نوع من ممارسة سياسة "العصا والجزرة" لتحقيق أهداف بعضها معلن والآخر غير معلن.
&& قبل كل شيء نقول، إن مثل هذا القرار (إن صدر حقا أو أنه سيصدر ذات يوم أو إن جرى رفعه كورقة ابتزاز) من مؤسسة تشريعية لدولة ماتزال تتحكم بمصير الشعب العراقي، يعني في المحصلة النهائية ودون أدنى شك، تقسيم العراق. ويعني في بعض أبعاده، إدخال كل "دويلة جديدة" مستلة من الجسد العراقي في إطار "مشروع الشرق الأوسط الكبير". فمثلا وبعبارة موجزة، يراد للجزء"السني" (كم أكره وأحتقر التوصيفات على أساس طائفي وديني لكنه لا مفر من ذلك لتبيان الأمور) أنْ يلتحق بالأردن ذات يوم بشكل أو بآخر، وسيكون امتدادا له ولمشروع إقامة "الدولة الفلسطينية" وإبعادها قدر المستطاع عن حدود شعب فلسطين الطبيعية، وتكوين سلسلة تمتد عبر سوريا التي ستلقى نفس مصير جارها الجنوبي (العراق) لتصل حدود تركيا (المُؤمّن جانبها أساسا لأنها جزء من منفذي المخطط)، ناهيك عن كونها عضوا في حلف دولي كبير معروف، هذا من الشمال ويلتقي بالجنوب بصحراء السعودية وساحلها الغربي حتى اليمن. ويعني أيضا حشر الوسط والجنوب العراقي في قعر الكيس الجيو- سياسي(وفقا لفكرة الشرق الأوسط الكبير المشار إليها أعلاه)، وهذا يعني خنق وإبعاد سكان هذه المناطق جغرافيا عن التأثير على مجريات الأحداث في شمال المنطقة بكافة تفاصيلها، وليبقوا ينوحون ويلطمون كما يشاءون حتى "ظهور المنتظر". وإذا ما أرادت بعض دول الجوار أن تستفرد بهذا الجزء فلها ما تشاء لأن "الحدود الجديدة" تجعل من هذا المكون بعيدا عن أي تاثير على مصير منطقة الشرق الأوسط، خاصة وأن النفط والغاز ليسا مصدرين أزليين للطاقة! إلا إذا اخذنا ترتيبات سرية مع الجوار الشرقي للعراق لتأمين الطاقة الآتية من شمال الخليج وجنوبه بعد فصل شرق المملكة عن غربها وفق سيناريو مشابه للذي أشرنا إليه أعلاه.
&هذا يعني أيضا شق المشرق العربي، وتأمين الجبهة الشرقية والجنوبية والشمالية لدولة إسرائيل. طبعا من حق أية دولة أن تفكر بطرق وأساليب تحميها من المخاطر المحتملة بما في ذلك إسرائيل، لكن ما الذي سيحمي العراق والعراقيين؟ وما الذي سيحمي دول الخليج من الالتحاق بالمصير العراقي من خلال تقسيمها على أسس مذهبية وقومية خاصة وأن ظروفها على هذا الصعيد مؤاتية؟
& على ضوء هذه التحديات والسناريوهات المحتملة، كيف كانت يا ترى ردود أفعال العراقيين من مسئولين وسياسيين ورجال دين ومثقفين وسواهم؟
& أولا، علينا أن نعترف بأن السياسة العراقية حكوميا وحزبيا وبرلمانيا وحتى شعبيا ما زالت تستند إلى الفعل وردة الفعل العاطفية والحماسية، بمعنى، إذا انتقدتني سأنتقدك، وإذا تعرضت لي سأتعرض لك، وإذا أردتُ تحقيق مطلب لي سواء أكان مشروعا أو غير مشروع حتى لو كان على حساب مصالح البلاد العليا، فما عليّ سوى اللجوء إلى المظلة الطائفية وفكرة التهميش والإقصاء والتمييز وفشل الحكومة وما شابه ذلك، لكنه لا أحد يذكر مصير بلاده وكيفية درء المخاطر عنها!
& بيد أننا، وقبل أن نخوض في موضوع موقف العراقيين حول قضية المقالة المحورية، بودي أن أذكّرَ القاريء الكريم، بأنني حذرت مرارا في بعض مقالات (منشورة لي على مدى العشر سنوات الأخيرة)، من عواقب غفلة السياسيين العراقيين وعدم كفاءتهم، وانشغالهم بالمراكز والفرهود وبأمور تتناقض ومصالح البلد ومستقبله، وبالتالي التحذير من عدم حرفية التعامل مع الجانب الأميركي باعتباره "الطرف المحتل- سابقا- والمؤثر الفعال على مجريات الأوضاع في البلاد راهنا". حينئذ اقترحت على المتحكمين بمصير السياسة والحكم توظيف "زواج الصدفة أو الإكراه" الذي خلقته الأحداث والظروف(بعد الإطاحة بالنظام السابق في 2003) لخدمة مصالح العراقيين وكرامتهم. واقترحت بأن تشكل لجنة عراقية واسعة خاصة مكونة من العارفين بالشأن الأميركي سياسيا وتاريخيا وثقافيا، لتقديم المشورة والنصيحة للسياسيين العراقيين، لكيفية التعامل مع الجانب الأميركي والتأثير على قراراته، وأن تعمل هذه اللجنة في قسمين متكاملين وفي مكانين في آن واحد هما: العراق وأميركا.
فهل يا ترى توجد مثل هكذا لجنة كما هو الحال في معظم دول العالم المتحضرة، وهل تعرف الحكومة العراقية السابقة والحالية بما جرى ويجري علنا أو وراء الكواليس الأميركية، فيما يخص الشأن العراقي على أقل تقدير؟ دعوني أعترف بأنني لستُ من المبهورين بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية لكنني من مناصري إقامة علاقات طبيعية مباشرة مع هذه الدولة والتركيز على مصالح العراق أولا وأخيرا.
&& الآن، نعود إلى النقطة الأخيرة المفصلية، أي إلى ردود الأفعال ويمكننا تصنيفها على ما يلي: فريق يدعو إلى مقاومة أميركا وتهديد بل ضرب مصالحها، يعني إعادة دورة العنف والعنف المضاد التي يعاني منها الناس بلا استثناء ناهيك عن زعزعة استقرار البلاد وتدمير اقتصادها. ولعمري، لا توجد ردة فعل أكثر طيشا وتهورا مما سمعت. لكنْ، لماذا؟ لأنه وبكل بساطة سيؤدي إلى غسل الجانب الأميركي يديه عن هذه الفئة التي تشكل اليوم النسبة الأكبر في إدارة الحكم في العراق. وهي فئة جاحدة غير كفوءة وتفتقر إلى بعد نظر، لأنها حصلت على الحكم بفضل أميركا كهبة منها، ظنا بأنها الطرف المتضرر سابقا والأكبر حجما وبالتالي الأحق من سواها. ثانيا، ردود أفعال قسم من أعضاء مجلس النواب والمسئولين السابقين الداعية إلى التنديد العنتري الفارغ بهذا القرار وتحريض وتأجيج الناس، ربما حتى عنفيا ضد الغرب وأميركا بالذات، وإلقاء اللوم على "الصهيونية وإسرائيل" لأنه يخدم مصالحها، وهذا لا يقل غباء عن الموقف الأول، نظرا لأنه شعاراتي لا يختلف عن الشعارات البائسة التي كانت تُرفع من قبل الحركات القومية واليسارية وفيما بعد الإيرانية(رغم ذكاء الجانب الإيراني في توظيف هذا السلوك لخدمة مصالحها القومية) في التعامل مع الأحداث، وفي رفع شعارات "رمي اليهود في البحر" التي دمرت أجيالا وبلدانا بكاملها... ثالثا، صدور ردود أفعال تُنبه وتُحذّرُ بقصد التوعية بمخاطر هكذا مشاريع، لكنها لم تصل حد التأثير، وأنّى لها ذلك.
& علينا ألا نقلل من حجم هذه المشاريع والمخاطر المحدقة بمصير البلاد والعباد وألا نغفل عنها أبدا، لكن علينا أن نتبع الطرق العقلانية المتحضرة والذكية لإيصال أصواتنا لصناع القرار في أميركا والغرب. علينا أن نتذكر أمرا حيويا هاما وهو، أن مشاكل العراق لا تُحل بجعجعة السلاح والبساطيل إنما بالحكمة وبعد النظر وبسط العدالة بين الناس وبين مكوناته جميعا. فالنوايا والقرارات الصادقة من لدن صناع القرار وتطبيقها على أرض الواقع هي الأساس وهي التي ستبني سُدّا وعائقا أمام محاولات تفتيت لُحمة العراقيين.&
&&& لذا أرى أن على حكام العراق وسياسييه ألا يتصرفوا كهواة أومغفلين وانفعاليين. ولا أنْ يتعاملوا مع أميركا باعتبارها عدوة. عليهم أنْ يطمئنوا الشارع العراقي قبل سواه بعدالة سياسة الحكومة في الواقع الملموس، وكذلك طمأنة الجانب الأميركي باعتبارهم شركاءه وأصدقاءه وليسوا أعداءه أو ناقلي "سلاحه" وخبرته لهذا الطرف أو ذاك بدون رقابة حكومية صارمة. على الجانب العراقي إذا أراد التعبير عن رفضه واحتجاجه وموقفه أن يقوم بتنظيم المظاهرات والاحتجاجات السلمية، ورفع شعارات متوازنة ومهذبة وذكية داخل العراق احتجاجا على طرح مثل هكذا مشاريع أو مواقف تتعارض ووحدة العراق وسيادته من جانب، ثم القيام بحملة توقيع البيانات الإحتجاجية وإرسالها تباعا وبلا هوادة إلى أعضاء مجلسي النواب والشيوخ الأميركيين وإلى البيت الأبيض، وإرسال وفود رسمية تمثل كافة أطياف الشعب العراقي إلى أميركا أو سواها إقليميا وعالميا، لتوضيح مواقف العراقيين الرافضة تماما لتلك الأفكار والمشاريع التي تعتبر تدخلا في شئون العراق الداخلية والتي لن تخدم في المحصلة النهائية المصالح المشتركة التي ينبغي توطيدها وليس زعزعتها.
&& وإشارة أخيرة قد لا تُرضي البعض، ولكن لنقلها وليكنْ ما يكون: على هؤلاء السياسيين ورجال الدين أن يلتفتوا إلى مصالح العراق والعراقيين أولا وأخيرا وأن يكفوا عن التصريحات الرنانة والمذهبية وشعارات الحقب القومية الماضية التي تخدم مصالح وأجندات بعض الأطراف على حساب المصالح العراقية. يعني بصريح العبارة، على السياسة العراقية ألا تكون أداة لخدمة مصالح هذا الطرف أو ذاك إقليميا أو عالميا، مهما كانت البواعث، العراق يحتاج إلى سياسة متوازنة ذكية بما في ذلك اللعب على المتناقضات الإقليمية والدولية، والامتناع عن مهاجمة هذه الدولة أو تلك مهما كانت طبيعتها. والحر تكفيه الإشارة!
الأول من أيار/مايو 2015