"حسنين محمد على" شاهدته في قريتنا يركب حماره يتهادى بجوار الترعة على الزراعية& راجعا من حقله معلقا في رقبة حماره تليفونه الموبايل مربوطا بدوبارة مهترئة والتليفون الموبايل يتأرجح يمنة ويسرة مع ارجحة رقبة الحمار. ولا يدري هذا الشاب والذي لم يتجاوز العشرين من عمره بأن جده لم ير في حياته أي تليفون وأبوه تميز عن كل أقرانه في القرية بأنه كان يعمل خفيرا لدى العمدة وكان من حظه أنه يرد أحيانا على التليفون الوحيد في القرية وهو تليفون العمدة وأحيانا يستمتع بالرد وهو يسمع صوته قائلا :"آلو ... يا مركز".
والتليفون المعلق في رقبة الحمار لم يكن تليفونا عاديا، بل كان تليفونا ذكيا إشتراه مستعملا من إحد محلات الموبايل والتي أنتشرت في المركز القريب من قريتهم، أصبحت محلات الموبايل أكثر إنتشارا من محلات تبيع الخبز والغذاء. إشتراه بأقل مما يكسبه في الأسبوع ولكن من خلال هذا التليفون يستطيع الإتصال بشقيقه والذي يعمل بالسعودية ويستطيع الإستماع إلى الأغاني بل ومنه يعرف أوقات الصلوات ويوم الجمعة يقرأ من شاشته الصغيرة سورة الكهف. وأحيانا يأخذ صورا لأمه وأخته ويرسلها إلي شقيقه على الواتس آب، وأجمل أوقاته حين يخاطب فتاته (هبة) بعد أن تعود من المدرسة.
ويعود في المساء حيث تطلب منه أمه أن يقوم بتعديل وضع طبق الأقمار الصناعية (الدش) فوق سطح منزلهم الطيني لأنهم يودون مشاهدة المسلسل التركي بعد مشاهدة نشرة أخبار بي بي سي العربية. وبعد مشاهدة كل هذا ينظرون حولهم إلى الكوخ الذي يعيشون فيه ويقارونه بما يشاهدونه في المسلسلات التركية وغير التركية ويتحسرون على حظهم الهباب.&
فجأة أصبح العالم كله ليس في حجم قرية حسنين فقط ولكن في حجم كوخ أٍسرة حسنين الطين بل ربما أصبح العالم في حجم موبايل حسنين الذكي والتي يتدلى من رقبة حماره.
...
الثورة التي أحدثتها وسائل الإتصال الحديثة وبصفة خاصة التليفونات الذكية والإنترنت والقنوات الفضائية خلقت نوعا جديدا من المساواة بين الأغنياء والفقراء، بيل جيتس (أغنى رجل في العالم) بجلالة قدره يحمل في جيبه نفس تليفون حسنين (أفقر رجل في العالم) المعلق في رقبة حماره. ويدخل على نفس الإنترنت الذي يدخل الرئيس أوباما نفسه، خلقت الإنترنت وثورة المعلومات ديموقراطية ومساواة عجيبة بين البشر، اليوم يصل عدد المشتركين في موقع الفيس بوك حوالي مليار ونصف المليار نسمة وهو مايعادل خمس مرات سكان أمريكا، وبين هذا العدد المهول من البشر : الفقير والغني، الشريف والنصاب، العالم والجاهل، أستاذ الجامعة وناس تفك الخط، الرئيس أوباما وعامل نظافة في أفقر بلد، وتجد حسنين محمد على وبيل جيتس.
وعبر التاريخ القديم كانت المعلومات حكرا على الصفوة والكهنة، حتى أن الكهنة كانوا يرفضون ترجمة الكتب المقدسة إلى اللغات الأكثر شيوعا حرصا منهم على الإستئثار بالمعلومات للحفاظ على مراكز القوى والتي كانوا يستمتعون بها. واليوم أي طفل من الثلاثة مليارات نسمة الذين يستخدمون الإنترنت حول العالم بضغطة زر واحدة يستطيع الحصول على معلومات لم يكن لأينشتين يحلم بالحصول عليها. وأصبحت المعلومات متاحة مجانا تقريبا للجميع. ولم تعد هناك سلطة أو كهنوت تستطيع أن تستاثر بالمعلومات لنفسها أو تحجبها في نطاق الصفوة والأقوياء والأغنياء.
وكما أحدثت ثورة المعلومات والتليفونات الذكية نوعا من المساواة بين البشر، إلا أن المساواة في الدخول والثراء ومستوى الخدمات وحقوق الإنسان مازالت حلما بعيد المنال، بل على العكس يزداد الأغنياء غنى ويزداد الفقراء فقرا حتى لوعلقوا تليفوناتهم الذكية في رقاب مواشيهم!! وفجأة إكتشف& الفقراء أنهم رغم ثراءهم المعرفي المجاني، مازالوا بالفعل فقراء، ومازال أولادهم وبناتهم يعاونون من البطالة وما زال بعضهم أو معظمهم في بعض البلدان يعيش حياة تأنفها بعض القطط والكلاب المرفهة، وفجأة شاهد الفقراء القصور التي يعيش بها الأغنياء وقارنوها بالزرائب التي يعيشون فيها. وفجأة بدأوا يقرأون على تويتر مدى البذخ الذي يستمتع به بعض الأغنياء كما بدأوا يتناقلون بعض الأخبار المبالغ فيها في بعض الأحيان عن فساد الحكام.
وكل هذا خلق نوعا من عدم الرضا بل وادى عدم الرضا إلى حالة شديدة من الغضب الدائم، وهذا الغضب شاهدناه في ميدان التحرير أثناء ثورة 25 يناير، كان هناك ملايين من المصريين الغاضبين وقادتهم حالة من عدم الر ضا والسخط على الحكام إلى الثورة وتغيير نظام الحكم، ثم عادوا مرة أخرى وثاروا على نظام حكم جديد أختاروه من عام واحد فقط.
هناك مئات الملايين من الشباب الغاضب والمهمش، واحيانا هو غاضب غضبا شديدا لا يعرف له سببا حقيقيا سوى أنه في قرارة نفسه لا يشعر بالأمل في المستقبل. وأيضا لا يوجد لديه ما يخسره، بل وأحيانا يرى أن الموت ربما أفضل من الحياه التعيسة التي يحياها. وياحبذا لو كان هناك شيخ يخبره وبأدلة قاطعة من الكتب المقدسة& بأنه لو قتل نفسه وقتل بعض الكفار فسوف يذهب مباشرة إلى الجنة، فسيوف يفعل ذلك وهو في قمة الرضا.
والشباب الغاضب تراه في كل أنحاء العالم:
تراه في مدينة بلتيمور وجيفرسون في أمريكا، تراه في مارسيليا في فرنسا، وتراه في ميدان التحرير بالقاهرة، وتراهم في سوريا والعراق وليبيا واليمن والصومال، وتراهم يغامرون بحياتهم بالآلاف للهجرة الى اوروبا ويعبرون البحر المتوسط في قوارب بدائية ويغرق منهم المئات ولكنهم رغم هذا يستمرون في محاولة العبور لأن هذا هو أملهم الوحيد لكي يخرجوا من دائرة المهمشين إلى دائرة المواطنين.
...
إستمرار إتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء على مستوى العالم فيها خطورة على المجتمعات الأغنياء قبل الفقراء، وبزيادة تلك الهوة سيزداد المهمشون في الأرض وتزداد الهجرات غير الشرعية وتزداد الهجمات الإرهابية وتزداد المظاهرات الغاضبة والمدمرة.&&

[email protected]
واتابعونا على تويتر
@samybehiri

&