29

لماذا يستقر فكر وأثر مؤرخي الدين وشيوخ الفقه المؤدلجين في الذاكرة العربية أكثر من فكر وأثر مبدعي العلوم التجريبية والفلسفية ؟!
لماذا يستحوذ الواعظ على مساحة أكبر في العقل العربي أكثر مما يستحوذه عالم الطب او الفلك اوالهندسة؟
لماذا تحتضن الذاكرة العربية على مر التاريخ ما كتبته عواطف ودوافع رجال الدين المؤدلجين وتطرد كل ما انتجته عقول المبدعين في مجالات العلوم والفلسفة والفكر العميق؟!
لماذا يسيطر المُنتَج السطحي والتجهيلي وشعر المديح والحماس والهجاء والتفاخر والحط من قيم الآخر& على الوجدان العربي وعلى العقل العربي وينحسر تأثير كل فكر يستطيع ان يخلق مجتمعات جديدة؟!
لماذا بقي مثيرو الفتن وكارهو الفنون والعلوم في ذاكرة العرب وتم طرد ابن سيناء وابن حيان والفارابي وابن الهيثم من تلك الذاكرة المحشوة بالتقليد ،المفتونة بالخرافة ورفض الآخر المختلف ؟!
المنهج العلمي التجريبي يقوم على الاستقراء والمشاهدة& ويمكِّن الانسان من تحويل كل نظرية صحيحة الى عمل منتج ونافع وقد كان ابن الهيثم وابن حيان وعلماء مسلمين أوائل سباقين في وضع القواعد العامة لمقومات المنهج العلمي الاستقرائي وسلكوا طرق البحث المنهجي الذي يحرر التفكير من القيود والأوهام وتحارب الخرافة والشعوذة وكل موروث يناقض منطق العقل والتفكير المستند على حقائق علمية منهجية عبر السؤال والتجريب والبحث والشك المنهجي .
يقول ابن حيان شيخ الكيميائيين أن ،ملاك كمال الصنعة العمل والتجربة .
&ويقول عبقري البصريات ابن الهيثم ، بضرورة استقراء الموجودات وتمييز خواص الجزئيات.
بل ان هناك من يعتبر ان ابن الهيثم إضافة الى اسبقيته في طريقته الاستقرائية كأحد علماء المسلمين المؤسسين& للمنهج التجريبي قد سما سموا كبيرا على الفيلسوف بيكون الذي يعد أحد مؤسسي الطريقة الاستقرائية في المنهج التجريبي عند الغرب !
صحيح أن بعض أولئك العلماء المسلمين مثلما قال لي مثقف أمريكي ليسوا عربا ويعتبرون حسب التصنيف العربي التاريخي المؤدلج حالات شاذة لا تمثل حقيقة الفكروالعلم العربي وطريقة التفكير التلقينية المتبعة في عالم العرب المناقضة كليا للشك المنهجي والاستقراء العلمي ، إلا أن العرب يتفاخرون بتلك العقول المبدعة عندما يضعهم الآخرون في زاوية المقارنة الحضارية ،لكنهم عندما يعودون الى صراعاتهم الطائفية يلجأؤن الى الإساءة لتلك الرموز المبدعة كيلا يحتسبها طرف كنوع من التميز لمذهبه، فتبعد الكثير من العقول عن التأثر واتباع منهج العالم المستنير فتنكص تلك العقول وتظل طريقها لتعاود السيروراء الواعظ المؤدلج بكل أسف.

عبر تلك الثنائيات المتسائلة التي نستطيع ان نضعها في ثنائية واحدة هي :
لماذا تحتفي الذاكرة العربية بالجهل المقدس وترفض العلم المؤسس؟
نستطيع ان نتفحص عقل العربي ووجدانه لنتعرف على اسباب خضوعه لذلك التأثير الذي جعل من العربي على مر التاريخ عبدا للمستبدين وادواتهم وخرافاتهم وجهلهم وعدوا للحرية وكل فكر مستنير يحرر الانسان من ذله وخوفه وخنوعه.
لو استطعنا فحص الذاكرة العربية وتحليل أسباب ماتحتويه من مساحات معتمة اكثر من تلك الإضآت العابرة سواء في عقله او وجدانه لاستطعنا فهم الانسان العربي الذي يعيش في القرن الواحد والعشرين بكل تطوره العلمي والتقني والاجتماعي حيث يتسابق شباب العالم للدراسة في اعرق الجامعات ومراكز البحوث والسفر الى المريخ وارسال المسبارات الى المجرات البعيدة في الوقت الذي تتزاحم طوابير شباب العرب وبناتهم نحو مدرسة داعش عشقا في جز الرقاب وجهاد النكاح وهدم الآثار العظيمة ,وبرغم الفرص الكثيرة التي تتوفر لشباب العرب للتعلم والسفر في كل مكان ووجود الآلاف منهم في أعرق جامعات الدنيا . لكن تلك الأعداد الكثيرة منهم التي تتجه لتعتنق فكرا يعادي الحياة تظل نسبة عالية جدا تحتاج الى فحص التراث والفكر والمنهج ومعالجة تقوم على منهج علمي فلسفي اجتماعي سيكلوجي كيلا تتسع الفجوة في العقول بين التطور الحضاري السائد وبين ما يخضع له الكثير من أولئك الذين أصبحوا ضحايا لفكر لم يعد له صلة بالحضارة الحديثة سوى انه يستخدم وسائلها لإخضاع العقل التائه في الفراغ كي يغرق في مستنقعات آسنة من مخلفات ماض لم يعد له قيمة سوى عند الذين يتاجرون به كآخر أسلحتهم المهزومة !
لماذا يسيطر جهل ابو جلمبوا على ذاكرة العربي اكثر من فكروعلم ابن رشد والرازي والخوارزمي وابن حيان وابن الهيثم وابن النفيس وطه حسين وزكي نجيب محمود ونزار قباني واحمد زويل& وغيرهم من المبدعين؟
ويتصدر المنابر والمجالس والصفوف كل جاهل وسارق وقاتل ومشعوذ .. وينزوي اصحاب العقول في الزوايا المظلمة خوفا من ان يتهمهم أحد بالزندقة وخيانة امانة الظلام والتمرد ضد الخرافة؟!
عبر السؤال المستوحى من واقع الحاضر نستطيع الدخول بكل يسر وسهولة الى أزقة ذاكرة معشعشة بصور الثعابين البشرية التي لا تزال باقية بسمومها في الذاكرة الموبوءة بالظلام والكراهية لكل شيء جديد ومتميز يدفع العقل ان يفكر او يتطور ، وقد حان الوقت رغم تأخره ان تتم الإجابة على الأسئلة ومواجهة الحقيقة بكل شجاعة وخلق منهج علمي جديد يعيد العقل الى طريقة الاستقراء والشك في مسلمات الخرافة التي& أعاقت تطور فكر العقل العربي وجعلته محل سخرية الشعوب برغم ما يمتلكه هذا الانسان من مقومات حضارية كثيرة يستطيع بها ان يكون له مكان يفتخر في الانتماء اليه وحضارة يتفاخر بها وفكر ينير له الطريق غير هذا الفكر الذي لايبرز العربي غير متعطش للدماء وجز الرؤوس في العصر الذي يعجز فيه عن تحرير أرضه المسلوبة وإرادته المقهورة& ، لأنه لم يستطع ان يحرر فكره أولا من فكر الظلام المسيطر عليه !
يقول مفكر عربي عظيم& هو الدكتور زكي نجيب محمود لايذكره العرب برغم رحيله القريب عن عالمنا المشغول بفكر أبو جلمبوا الممثل لكل فكر خرافي قديم& ... يقول عبارته التي عنون بها أحد كتبه الجديرة بالقراءة والاحترام قبل عقود من زمننا العربي المظلم :
مجتمع جديد أو الكارثة !
وأعيد اقتباسها كعنوان وخاتمة لهذا المقال وكلي أمل ان تستيقظ هذه الأمة من تخلفها وتعلن رفضها لكل فكر ظلامي يمنعها ان تعشق الحياة وتصنع التميز !
&
[email protected]
&