سبق وإن سلطنا الضوء في القسم الثاني من موضوعنا الموسوم " دور اللغة وأهميتها في حياة الشعوب" وقد إرتأينا في هذا القسم أن نحدد بعض الإشكالات التي تدع لغة ما تتراوح في عقر دارها لتصبح في عداد اللغات التي في طريقها للإندثار، بالرغم ممن يحاول من بني الطليعة الواعية على بث روح الحياة فيها. لذا نود القول هنا: &
لو لم تكن اللغة برموزها الإبتكارية عبر مراحل التاريخ، لما استطعنا اليوم أن نتحدث ونتخاطب بها مع بعضنا، أو أن نقرأ لفهم ما دوّن بواسطتها، &نكتب وننشر ما يخالجنا وما تراودنا من الأفكار، وما إلى ذلك من مفاهيم أخرى.. وبما أنه قد إرتقى عددها إلى ما يقارب الستة آلاف لغة من خلال التطور البشري في كافة أصقاع العالم بهذا العدد الهائل، ليس معنى ذلك أن نتأملها ونفقهها جميعاً، ولا حتى الجزء اليسير منها. هذه بديهة لا يقرها المنطق العلمي اللغوي ولا الفلسفي لمحدودية مدارك الإنسان. إن المهم والأهم أن يتمكن الفرد من لغته الرئيسة المتعارف عليها بتسمية اللغة الأم، أي التي نشأ وترعرع عليها منذ صغره ولحد كبره. وهذه حقيقة لا يمكن نكرانها، ولا تغفل على أي إنسان ينتمي إلى المجتمع البشري بحكم معايشاته اليومية في محيط مجتمعه، وعلى وجه خاص من ينتمي لذات المجموعة الإثنية التي يؤمن بها ويجعلها ديدنه الأسمى أينما حطت به الأقدار من أرض المعمورة. ليس معنى ذلك أن تتحدد المعرفة اللغوية بلغة واحدة فقط لدى الفرد، طالما هناك ما تفرضه التعاليم اللغوية وإمكاناته الإدراكية لتسلحه بلغات أخرى. إذن من الأهمية بمكان أن يتعلم ويتقن الفرد لغته الأم قراءة وكتابة طالما من السهولة أن يتحدث بها منذ نعومة أظفاره. أما أن يخلق مبررات يستوجبها التحليل الإقناعي فهذه مسألة فيها وجهة نظر. قد يكون الأمر كذلك أحياناً لظروف تفرضها الحياة الإجتماعية والسياسية العقائدية للدولة التي ينشأ فيها ومرتع طفولته. ولكن أن تكون عكس ذلك فلا وجوب للأعذار والمسوغات قطعاً. والقصد من ذلك إن توفرت كافة السبل والوسائل لتحقيق ما نعنيه، فأين تكمن العلة؟! هل هي في تصرفات إهمال الوالدين وأولياء الأمور؟ أم في نفسية الفرد ذاته؟ معايشاتنا وتجاربنا على مدى طويل من السنين أثبتت بأن الأمر يتوقف على الوالدين وثقافتهم بالدرجة الأولى، ومن ثم الأبناء بالدرجة الثانية، ولأسباب مجتمعية عديدة ثالثاً، بحكم المصاحبة والمرافقة من ذات الأعمار التقريبية تفرضها التأثيرات المباشرة عليهم &للتخلي عن التعليم اللغوي. وبما أن المسألة عمومية لدى أغلب الشعوب في ديار المهجر، إلا أن خصوصيتها تكمن لدى المكونات القومية التي ليست لها مدارس رسمية ومنابع تعليمية منظمة لإنتشال آفة الأمية كمصطلح أقرته منظمة اليونسكو الذي مفاده بأن من لا يقرأ ويكتب بلغته الأم يُحتسب في عداد الأميين بلغته الأم رغم معرفته وتثقفه بلغات أخرى لا تمت بصلة لإنتمائه اللغوي والإثني.
إن ما دعاني لهذه التنويه الهام، هو زياراتي للعديد من دول الإغتراب التي يتواجد فيها أبناء رعيتنا وجلدتنا من الآشوريين المهاجرين بكافة تسمياتهم، وعلى وفق خاص الذين تتوفر فيهم الهيمنة القومية من الشباب بالإنتماء الإثني وإفتقارهم للتربية اللغوية التي هي عماد أحاسيسهم ومشاعرهم وروح استمرارية وجودهم عبر التاريخ الحديث. وهناك أيضاً إلى جانب ذلك من لا يقلّ شأناً عنهم من أصحاب المسؤوليات في المراكز الدينية والمؤسسات الثقافية والإجتماعية يتمجدون بأصالة لغتهم القدسية ومدى أهميتها دون أن يحركوا ساكناً في الرفع من شأن أهميتها ودورها في الحياة الإجتماعية وتفعيلها بشكل مباشر ، أو المبادرة على حث أبنائهم للإلتحاق ببعض الدورات التي لا تتجاوز على أصابع اليد الواحدة إن كانت في الكنائس أو الجمعيات الخاصة التي اصبحت مرتعاً مرموقاً لهم للهو وقضاء الوقت هباءً في الإنغمار بمناقشات فارغة على طاولات مستديرة وبأعمال تمتد لساعات متأخرة من السهر لا تتناسب والتربية الأخلاقية لأبنائهم وعوائلهم.&
ومن جانب آخر، إن تهيأت فرص التعليم الرسمي، يتبين لنا عن تهاون المسؤولين وتقاعس الوالدين أو أولياء الأمور من إتمام واجبهم في التعليم اللغوي المجاني على حث وتشجيع أبنائهم بغية الإلتحاق بدروس تعليم اللغة الأم. ولكي أكون أكثر وضوحاً استل مضمون هذه الفكرة من الواقع العملي في المدارس السويدية أولاً عن قلة الذين يلتحقون بدروس اللغة الآشورية وبكافة مسمياتها في كافة المراحل الدراسية، مقارنة بالكثافة السكانية لتواجد عدة آلاف من الناطقين بذات اللغة من المؤمنين بها شفاهاَ بذريعة تسمية الإنتماء القومي، بحيث لا تتجاوز نسبة تفعيلها العشرة بالمائة إن لم تكن أقل من ذلك. علماً بأنه يتم توفير كافة مستلزمات التعليم مجاناً دون أي مقابل. فإن كانت النسبة المخيبة للآمال بهذا المعدل في بلدان مشابهة، فما أدراك من البلدان الأخرى التي لا تتواجد فيها تلك الخدمات، وحسبي من ذلك حتى وإن وجدت وتهيأت الفرص بالمجهود الشخصي تجد النسبة بما لا تتوقعه أبداً، والدلائل كثيرة في العديد من دول الشتات في أوربا وأمريكا حيث تشكل فيها مجموعات سكانية اثنية كبيرة متمركزة في بقعة أو منطقة جغرافية واحدة.&
هذه الإشكالية من ناحية، ومن الناحية الأخرى بعد تصاعد الوعي القومي على ضوء الأحداث السياسية والدينية في الأوطان التي يؤمها ذات الشعب تبرز الساحة السياسية والدينية والثقافية المتمثلة بالأحزاب والمراكز الدينية محدودية التوعية اللغوية لم ترق للمستوى الذي يستوجبه التعليم اللغوي في المهجر، بإستثناء بعض الجهود النادرة جداً التي يشهد لها الواقع المألوف في استراليا، ناهيك عن تألق تجربة التعليم في الوطن الأم.
وبالرغم من كل ذلك يتجلى لنا من أصداء تلك المواقع بأنها تخفي عنها أهمية التجسيد اللغوي المشمول ببرامج ومهمات أخرى كالتأليف في مجال أدب الأطفال والشبيبة والحكايات الشعبية التراثية وأدوات الألعاب الخشبية التعليمية وما شابه ذلك من وسائل الإيضاح العملية وفق ما هو متعارف عليه في المدارس الحديثة. كما وأنه من جملة ما يرتقي بالتوعية اللغوية في مجال تلك النواقص والسلبيات هو تشجيع من تتوفر فيهم المواهب فيما يتوصلون اليه ويحققوه دون دعم أعمالهم الإرشادية التوجيهية بمستوى الفكر القومي الفاعلة لتكوين الشخصية وإبراز الهوية الحقيقية، وكلنا يعلم بأن السياسات الدخيلة والنزعات الإرهابية والأوضاع المزرية في بلداننا الأصلية أردتنا على شفا حفرة من نار لنهجر أوطاننا وننقذ أرواحنا لعلنا نعود لضالتنا المنشودة والهدف المستوجب تحقيقه.
&
إذن دعونا أن نجعل من لغتنا الأم الوطن الدائمي لنا جميعاً أينما تواجدنا وبرغبة ملحة في كافة محطاتنا الإنتقالية، ومن خلالها نخاطب ما افتقدناه عسانا نصيب الحقيقة مثلما أصابت ذلك بعض الشعوب التي عايشت ذات المحن بصبرها الطويل جاعلة من لغاتها الدرب الشائك في طريق المعتدين وسلاح التحدي في وجوههم.&
ولطالما لا زلنا في دائرة التبجيل اللغوي، فلا محالة من أن نفتح آفاقاً جديدة بطرق أبواب مستحدثة تمليها علينا وسائل الإعلام من الفضائيات والمواقع الألكترونية وغيرها من السبل التي تمتعت بألسن حرية التعبير المباشر والأقلام التي تم تحريرها من شبح الظلم والإضطهاد بإطلاق سراحها.&
وهنا نود أن نثني جهود ومساعي المجلس القومي الآشوري في الينوي على يقظته ومبادرته بإقرار القرار التاريخي على جعل يوم 21 نيسان من كل عام يوم اللغة الآشورية، مستمداً أياه من ضخامة وأهمية القاموس الآشوري المحصور في واحد وعشرين مجلداً صادراً عن جامعة شيكاغو، استغرق وضعه تسعون عاماً على يد أمهر وأشهر اللغويين، توالى على جمع وتشذيب مفرداته أكثر من 85 باحثاً لغوياً من المستشرقين.
لذا.. وبهذه المناسبة التي نحن على أبوابها من شهر نيسان الخالد نهيب بكافة مؤسساتنا ومدارسنا ومعلمينا أن لا ينسوا هذا اليوم التاريخي الهام، وأن يستيقظ من هم في سبات الإهمال القاتل ومن يضع العصا في دوران العجلة بأسلاكها أو قضبانها المحكمة الشبيهة بالتسميات اللغوية. وأن لا يتم إغفال ذلك من مسؤولي ومعلمي من نشيد بتجاربهم الإيجابية في سدني ونيوزيلندا ومحافظات السويد والعراق أيضاً تيمناً باللجنة الأدبية والتعليمية للمجلس القومي في شيكاغو ومالبورن وأرمينيا وجورجيا وكراسنادار في روسيا ومناطق أخرى متفرقة.
كاتب آشوري عراقي
&&
التعليقات