يدرك المتخصص في الشأن الاماراتي أن هناك قيم متجذرة تقوم عليها التجربة الاتحادية في دولة الامارات العربية المتحدة منذ تأسيس الدولة على يد المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ـ طيب الله ثراه ـ وفي القلب من هذه القيم تقع قيمة الوحدة والاتحاد، حيث تؤمن قيادتنا الرشيدة، وعلى رأسها صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله، بأن هذه القيم هي الحصن الذي يوفر القوة والمنعة للتجربة الاتحادية في مواجهة الأنواء والأعاصير الاقليمية المحيطة بينا من كل حدب وصوب.
ومنذ اضطرابات عام 2011 التي أجتاحت المنطقة العربية، وأطاحت العديد من أنظمة الحكم وما ارتبط بهذه الأحداث والاضطرابات العاصفة من صعود تجار الدين تحت ستار ولافتات سياسية، ثم اكتشاف العديد من الشعوب العربية حقيقة نوايا هذه التنظيمات والجماعات وإطاحتها من الحكم، منذ هذا التاريخ تمسك شعب الامارات الوفي بشعار "البيت متوحد" الذي أطلقه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، تعبيراً عن حالة الاصطفاف المتفردة بين الشعب والقيادة في الدولة في مواجهة الأنواء والأعاصير وتحديات الارهاب والفتن والمؤامرات التي اجتاحت مناطق شتى من عالمنا العربين وتفشت في ربوعه. وتحول هذا الشعار إلى رابط حقيقي يجمع شعب الامارات ويربط أبنائه بوشائج قوية يستطيع أن يتلمسها كي مقيم أو زائر للامارات، فالجميع قد استشعر ما وراء هذا الشعار وكيف أنه يعكس حالة وجدانية قائمة بالفعل، اختزلتها الكلمتان البسيطتان في معناهما العميقتان في التعبير عن التماسك والتلاحم الوطني الفريد بين أبناء الشعب الواحد من ناحية، وبين الشعب والقيادة من ناحية ثانية.
ما أريد قوله أن الشعار ـ أياً كان ـ ليس هو القيمة المعنوية بحد ذاتها، ما لم يكن معبراً عن حالة مجتمعية ما، أو يجسد ويختزل مناخاً مشبعاً بالدلالات القيمية والهوياتية لهذا الشعار، وعدا ذلك تتحول الشعارات إلى مفردات جامدة خاوية من المعاني والدلالات وتظل تحلق في فضاء الثرثرة الثقافية والسياسية ولا تهبط على أرض الواقع، كونها لم تنطلق منه ولا علاقة لها به منذ البداية. ومن ثم فإن العبقرية في شعار "البيت متوحد" أنه تجلي في لحظات صعبة على الوجدان والشعور الوطني الاماراتي، حيث برز مع تنامي التحديات والأخطار الاستراتيجية الاقليمية، وبرز معها شعور وطني جارف بضرورة الالتفاف حول القيادة، وكانت تحركات صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان وزياراته للمواطنين والتقائهم في مناسبات مختلفة، مثل زيارات الجرحي من أبطال المشاركة العسكرية الاماراتية ضمن التحالف العربي في اليمن، وتقديم واجب العزاء لأسر شهدائنا الأبرار، وغير ذلك، كانت هذه التحركات بمنزلة "ترمومتر" يقيس مدى ارتفاع الشعور الوطني الجارف وعمق الالتفاف الوطني حول القيادة، &ومن ثم جاء "البيت متوحد" ليعكس ويترجم ويعبر عن حالة وطنية شعبية فريدة.
إحدى سمات هذا الشعار أيضاً أنه ولد من البيئة الاماراتية، التي تتخذ من فكرة الاتحاد والوحدة منطلقاً هوياتياً حاكماً لها في كل مراحل تطورها التاريخي، فالوحدة لها قصة تاريخية متجذرة في الوعي الجمعي الاماراتي منذ تأسيس الدولة، وتوحد إرادات وقلوب الآباء المؤسسين على بناء دولة اتحادية قوية.
على الخلفية السابقة، يمكن فهم أبعاد الحملة التي أطلقها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، مؤخراً تحت شعار " أسرتنا متماسكة 2021"، فالامارات تمضي على درب التطوير والتنمية والحداثة من دون أن تفقد بوصلتها ـ ولو للحظة واحدة ـ والبوصلة هنا هي القيم والهوية الاماراتية الأصيلة، التي تلازمنا في التخطيط والتنفيذ لأي رؤى وتصورات استراتيجية تستهدف اندماج اقتصادنا الوطني مع موجات العولمة، بحيث نمتلك ناصية التفاعل ولا نترك أنفسنا فريسة لقيم واردة أو وافدة ترفض علينا، وتعمل على تآكل موروثنا الثقافي والهوياتي.
قد يقول قائل، إن الملايين من العمالة الوافدة قد أثرت في هوية دولة الامارات العربية المتحدة وان الدلائل على ذلك كثيرة، وهنا أقول أن هناك فارق بين الممارسات والسلوكيات اليومية الآنية، والقيم المجتمعية المتجذرة، فالسلوكيات تتغير وتتطور وهذه إحدى سنن الكون، ومؤشر ودليل على ديناميكية الدول والشعوب ومقدرتها على التفاعل والتواصل الحضاري والثقافي مع الآخرين، وهذا بحد مؤشر إيجابي وليس سلبي. أما القيم الهوياتية فهي من الثوابت، التي تتحكم فيها مؤسسات الدولة المعنية بالثقافة والهوية الوطنية والاجتماعية، وأجزم بأن الامارات قد استطاعت تحصين نفسها بقوة على هذا الصعيد، حيث تعمل باستمرار على ترسيخ هويتها من دون انعزال مرفوض، بل تعمل على بناء نوع من التفاعل البناء ومد خيوط الالتقاء الحضاري والثقافي بين الهويات المتعددة التي تمثلها العمالة الوافدة بالدولة من ناحية، وبين الهوية الاماراتية الأصيلة من جهة ثانية. وما يساعد على نجاح هذا التفاعل أن القيم الاماراتية بحد ذاتها هي قيم تمتلك قدراً هائلا من الانفتاح وقبول الآخر ، ومن ثم فلا تواجه إشكاليات ثقافية على صعيد التفاعل معه وبناء المشتركات الحضارية والانسانية، وهي أمور تنتج في الأخير هذا النموذج الفريد من الاستقرار والأجواء المريحة لملايين البشر من المواطنين والوافدين المقيمين في الدولة ويسهمون في مسيرة التنمية بها.
لم تنس الإمارات طيلة مسيرتها التاريخية، النبتة الأولى، للمجتمع، وهي الأسرة، فالاهتمام بالجذور أصيل لدى الاماراتيين جميعاً، ومن البديهي أن تجد اهتماماً على أرفع المستويات القيادية بما يخص الأسرة الاماراتية ومستقبلها واستقرارها، فالأسرة كما قال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم هي "نسيج ثقافتنا الحية وحافظة قيمنا، والبيئة التي تعد أبناءنا وبناتنا لمواصلة مسيرة التنمية فهي أساس الحياة في مجتمعنا ورافدها الرئيسي لرأس المال البشري" وهذه هي فلسفة العمل الاماراتية، التي لا يدركها الكثير من الباحثين والمتخصصين، ومن يقعون في مغالطة البحث والدراسة والاستقصاء في قشور الظاهرة البحثية، وينزلقون إلى استنتاجات لا علاقة لها بواقع الحياة الحقيقي على أرض الامارات، التي تحافظ على مخزونها الاخلاقي والقيمي والهوياتي بدرجة الحرص ذاتها التي تحافظ بها على مخزونها من النفط والثروات الطبيعية وغيرها من مصادر الثروة لأجيالنا المقبلة.
&