"من كتابي المقبل الذي سيصدر قريبا والمعنون / مذكرات مثقف عراقيّ أوان الحصار"

في يوم عاصف بالريح من ايام الشتاء قاسية البرد في العام / 1994، والمثقلة بالجوع نتيجة الحصار الاقتصادي المدمّر على بلادي ومعظم ابناء شعبي المغلوب على أمرهم، والتي لم تُبقِ لي راحة بال او هدوء مع خواء الجيب تماماً ؛عدتُ الى مسكني مساءً بعد ان أضناني التعب الشديد بحثا عن رزق ولو يسير يقيم أوَد أسرتي ليوم او يومين&

&كانت الفاقة تضيق بخناقي بحيث لم اجد مالا حتى لشراء ارغفة الخبز لاطعام عائلتي. اعتكفت في غرفتي وحيدا أقلّب امري يمينا وشمالا باحثا عن حلّ لتخفيف هذا البؤس فلم اجد مخرجا او بارقة أمل تنجيني من هذا المأزق. وبينا انا على هذا الحال نادتني زوجتي طالبةً مني توفير شيء من طعام الافطار للغد.

&وفجأة خطرت لي فكرة لم اعتد تنفيذها مطلقا في كل محطات عمري مهما حيق بي من عوز او حاجة وهي استعارة سيارة احد اصدقائي بحجة نقل ولدي "المريض" الى المستشفى لعلاجه من وعكة صحية ألمّت به، كان مسكن صديقي غير بعيد عني اذ يمكنني الوصول اليه راجلا.

&طرقت الباب ممثّلا دور الاب الذي أصابه الذهول وطلبت منه مفاتيح السيارة لفترة وجيزة لنقل ابني الى اقرب مشفى وانا اتصنع الارتباك والقلق المفرط على الوضع الصحي لوليدي؛ فأذعن لطلبي بعد تردد واضح على وجهه، قدت السيارة وحدي وعطفت بها الى مركز المدينة أملا في الحصول على من يستأجرني لتوصيله الى المكان الذي يريد، ففي زمن الحصار هذا كان العمل في تأجير السيارات الخاصة (تاكسي) مألوفا لدى عامة الناس.

اشتدّت الريح ورافقها مطرٌ كثيف يهطل بغزارة، اقْـتربت الساعة من العاشرة ليلا دون ان يشير لي احد فرحت أتنقل من شارع الى آخر ومن حيّ الى حيّ بلا جدوى حتى وصلت ضواحي بغداد غربا وأنا في حالة يأس تام، لولا ان لمحت احد السابلة يتعامل مع سائق تاكسي قدّامي فتريّثت قليلا حتى وقفت خلفه، غادر سائق التاكسي دون ان يتّفقا، ناديت الرجل الواقف على الرصيف وعرضت عليه خدماتي لإيصاله؛ فردّ عليّ بان سيارتي صغيرة ولاتكفي حمل أسرته الكبيرة فألححت عليه وأقنعته بضرورة الركوب معي وإيصاله حيث يشاء فوافق مكرهاً.

وصلنا الى البيت الذي سأقلّ أسرته منه وأتجه بهم الى مدينة الفلوجة، كانوا أربع نساء مع ثلاثة اطفال وقمت بترتيب جلوسهم حشراً وأقعدت الاطفال في احضان النساء والرجل بقربي الذي حدّثني عن حصول خصام عائلي مع مضيّفه أضطره للعودة الى بيته في هذا الوقت المتأخر من الليل البارد الممطر.

قبل منتصف الطريق واثناء وصولنا محطة الوقود طلبتُ منه مبلغ الاجرة لأملأ خزان السيارة بالبنزين. وبشقّ الانفس وصلت الفلوجة قبيل منتصف الليل حيث كانت السيارة تحتكّ بالأرض احيانا بسبب ثقل الحمولة وأفرغت حمل السيارة الثقيل وحمدت الله على ما أصابني من رزق. وفي طريق العودة على مشارف المدينة هطل عليّ رزقٌ آخر؛ إذ أومأ لي شبح رجلٌ بالوقوف وحدثني بلغة انجليزية ركيكة فهمت منها انه يريد الوصول الى المطار؛ حملت وإياه حقائبه وأجلسته جنبي ومن خلال حديثه عرفت انه من كوريا الجنوبية ويعمل خبيرا فنيا في احدى الشركات العاملة في العراق وهو بصدد تصفية حسابات الشركة وإنهاء أعمالها.

مرّت اقل من ساعة حتى أوصلته الى المطار لقاء مبلغ غير زهيد لم اكن اتوقعه، أدرت السيارة عازما الرجوع الى بيتي وتسليم السيارة لصديقي بعد ان امتلأ جيبي لكن صوتا جاءني من بعيد طالبا مني عدم المغادرة وإيقاف سيارتي جانبا، كان صاحب الصوت رجلا يعمل سائقا في تاكسي المطار فأشار لي انْ: تمهّل لأن طائرة حطّت توّا في المطار قادمة من موسكو وفيها وفد كبير من منتسبي وزارة الإعلام الموفدين.

&بقيت منتظرا خروج الوفد بعد اكمال الاجراءات الروتينية وما ان خرج البعض منهم حتى اتجهوا الى السيارات ومنها سيارتي واضعين حقائبهم دون ايّ اتفاق مسبق حول الاجرة او مكان الايصال، نظرت في الوجوه فإذا هم خير اصدقائي ومعارفي ممن كنت اعمل معهم سابقا قبل إحالتي على التقاعد عنوةً، أحسست بالخجل لأول وهلة ولكنني سرعان ما استعدت وضعي الطبيعي، كانوا اربعة موفدين فقمت بإيصالهم كلاً الى بيته جائلا في أحياء بغداد المترامية الأطراف بعد ان استلمت من كلّ فرد مبلغا وفيرا كأجرة.

عدت الى صديقي مالك السيارة قبل ان يوشك الفجر على الظهور، سلّمته السيارة ومفاتيحها شاكرا حسن صنيعه ورجعت جذلان وانا في غاية البهجة والانشراح فقد امتلأ جيبي مالا كثيرا يكفيني وأسرتي شهرا كاملا في رغد العيش وكدت ألمس بيديّ النديتين رحمة الله وحنوّه على عباده، ولمّا وصلت البيت؛ كانت زوجتي في انتظاري لتصبّ جام غضبها عليّ بسبب غيبتي الطويلة بهذا الليل الشاحب والممطر وصاحت في وجهي بعصبية ظاهرة: اين كنت ومن كان معك الى هذه الساعة المتأخرة؟ فقلت لها وانا منشرح الصدر: ياعزيزتي كان الله معي.

&

[email protected]

&