أخطأ من بنى أمل التغيير الفوري على التظاهرات، كما فعلنا حين اعتقدنا ذلك في يوم التاسع من نيسان 2003. التغيير بطيء، مرن، وطويل الأمد، يعتمد على وعي جماعي ينعكس على الانتخابات بصناعة البدائل.
&
&
أمل التغيير الفوري والسريع الذي رفعه زملاء لنا، تلاشى، لم يعد موجوداً، كما تلاشى حلم التغيير الايجابي بعد سقوط نظام البعث. وحتى لو نجح التغيير الفوري والسريع، تاريخنا يحدثنا عن الفشل، لأن جوهر المشكلة يكمن في المجتمعات العراقية التي صنعت وما تزال تصنع شرائحها السياسية نتيجة ردة الفعل وليس الفعل. في المقابل ما يزال قائما أمل التغيير البطيء والتدريجي والأكثر واقعية من حلم التغيير الشامل.
&
&
لكن المأزق الذي تمر به التظاهرات حتى الان، يكمن في الجدل بين المعنيين حول توصيف الفعل، بين الثورة والتظاهرة، وهو ما بان في الشهور الأخيرة، لدرجة أن البيان الواحد تضمن المفردتين أو الاصطلاحين رغم أنهما لا يجتمعان، والرابط بينهما فقط أن التظاهر قد يؤدي الى الثورة. هذا التناقض ضمن الموقف الواحد بين الوصفين، جزء من عدم وضوح الرؤية، بين التمنيات والواقع. هناك غواية لفكرة الثورة، غواية شديدة الفتك، يساعد عليها وهم أن الثورات عظيمة. انها جناية الفرنسيين على العالم الثالث وعلى "البلشفيات" التي جمّلت الجناية. ولو افترضنا أن الثورات لذيذة بلذة مسرحيات فولتير وعقد روسو وروايات غوركي أو بنشوة كتابات شريعتي التي خلطت الايديولوجيا القاتلة بالتغيير الضروري، فكيف نفهم أن ثائراً على نظام وعملية سياسية يسمح لنفسه أن يشارك في انتخابات ضمن هذه العملية السياسية؟
&
حين يكون الناشط ثائراً فهو يرفض كل النظام السياسي أو العملية السياسية، يريد اسقاطها وصناعة واقع بديل عنها، هذه هي الثورة، وما سواها هو تظاهرات أو احتجاجات تعمل على تغيير مظهر ما للنظام. لكن رغم هذا التمييز الواضح بين الحالتين، يظل الإبهام مسيطراً على بعض شرائح الاحتجاجات، لدرجة اننا يمكن أن نسأل: هل تريد التظاهرات التخلص من العملية السياسية، أم من زعاماتها، أم تريد تغيير شكل النظام من نيابي الى رئاسي، أم ترفض الفدرالية، أم اتجهت لتصبح صراعاً انتخابيا داخل البيت الشيعي؟
&
&
بالطبع ان التظاهرات ضمت جميع هذه الاهداف، بحسب تعدد القوى المساهمة فيها منذ اللحظة الاولى، وحتى قبل أن يكون الصدريون طرفاً أصيلاً بل الطرف الأصيل في الاحتجاجات. في الأسابيع الاولى شاهدت وجود الجميع، لم يكن هناك اجماع مدني على التظاهرات. لكن العنوان الأهم بعد أول تظاهرة في التحرير، هو مناهضة قوى الاسلام السياسي "الشيعية" ومن ورائها القوى الكردية والسنية بشتى مشاربها. وهذا ما أدى الى انسحاب جماعات متظاهرة كعصائب أهل الحق التي رفعت شعار تغيير النظام من نيابي الى رئاسي، وفتح نار التصريحات والاتهامات على التظاهرات من قبل فصائل مسلحة اخرى.
&
هذا العنوان الرئيسي تلاشى تماماً بعد دخول التيار الصدري للتظاهرات، تحولت القضية الى حكومة التكنوقراط. والمفارقة أن هذا المقترح هو نموذج العبادي للاصلاحات وليس التظاهرات، مرره في تصريحات مبكرة سبقت تبنِ السيد الصدر له. والى الان يحاول المتحالفون الصدريون والمدنيون ان يقدموا "حكومة الخبراء" كمطلب رئيسي. وبرفع هذا المطلب تم اقتحام مجلس النواب وفي يوم دام قتلت فيه السلطة متظاهرين اثنين، كان اقتحام مجلس الوزراء. لكن لم تمر حكومة التكنوقراط الى الان.
&
فالتظاهرات اتجهت الى تغيير سياسي صرف، وابتعدت عن المهمة الرئيسية لها. وعلينا هنا أن نفهم أن المعارضين، بعيدا عن المزايدات والاوهام، مخيرون بين خيارين: اما ان يتم اسقاط العملية السياسية ودستورها وتتحمل القوى ذات الصلة مسؤولية أي تداعيات لهذا الفعل الثوري، أو الاكتفاء بمواجهة مستمرة ضد زعامات العملية السياسية عبر قوى معارضة بشكل حقيقي، وليس قوى تشارك في الانتخابات ثم تعود الى التظاهرات، بمعنى قوى تساهم في الشرعية ثم تقدم نفسها ضد هذه الشرعية.&
&
وحتى نفهم أن حكومة التكنوقراط لم تعد هي المشكلة، إننا اليوم أمام ثلاثة قوانين يحاول سادة منظومة النهب تمريرها، وهي قوانين مجلس النواب وحرية التعبير وجرائم المعلوماتية، مهمة التظاهرات مواجهة هذه التشريعات، وليس حكومة التكنوقراط، لأن هذا النموذج من الحكومات لا يغير في الواقع شيئا. فأكاديمي يدرّس الفنون الجميلة في اكاديميتها لا يمكن أن ينهي الفساد المشرعن من قبل كتل نيابية تمتلك السلاح والنفوذ، هذا الامر يحتاج الى إصلاح جذري للقضاء، وليس تغيير اسم الوزير.
&
اتجاه التظاهرات التي أخافت السلطة قبل شهور، يكشف لنا حقيقة واحدة، أن السلطة بشقيها النيابي والتنفيذي لم تعودا معنيتين بالاصلاحات، بل قدمتا ثلاثة قوانين سيئة في غضون ايام قليلة، وهذا لأن التظاهرات تغيرت من دائرة الاحتجاج الى فعل يحلم بأن يكون ثورياً، وحين أدرك الناس ان الحلم مستحيل فقد حتى زخم الاحتجاج، لدرجة أن زعامات فاشلة تم اقصائها في حزمة الاصلاحات الاولى، عادت حية وقوية تتحدث بكل صراحة عن كل شيء، بل تتحدث عن مكافحة الفساد وربما ستطالب بمحاسبة المقصرين في سقوط الموصل!
&
&
ونعود لنقطة البداية، بعيداً عن تصنيفات "مستمرون مدنيون صدريون" فإن استمرار التظاهرات لا يفي بتغيير المشهد السياسي، بل إن تغييره ليس مهما، انما يمكن أن يساهم في صناعة وعي يضمن خلق واقع سياسي ايجابي على مدى عقود قادمة، وهذا ما نحتاجه. فلم يعد يكفينا أن يذهب وزير أو رئيس وزراء او مجلس نواب ليأتي اسم آخر مكانه، نحتاج الى ان مجتمع قادر على وضع حد لأي حاكم ووزير في حال فشل وليس في حال لم يبن مسجدا أو لم يذهب لزيارة أحد الاضرحة او يدعي حماية هذه الطائفة أو تلك، هذه القومية أو تلك.
&
باختصار ان التظاهرات بعد عام، نجحت بالاستمرار، لكنها فشلت في تطوير مطالبها بما ينسجم مع كونها تظاهرات تمثل الشارع!&
&