الأزمة السياسية بين المشتركات والتناقضات

&
&
يُجمع المراقبون والمتابعون للشأن العراقي ان ازمة العراق الكبرى بدأت منذ الاحتلال الاميركي للعراق، الذي اعتمد المحاصصة الطائفية والعرقية كنظام لحكم العراق، وأوجد لها تسمية (الديمقراطية التوافقية)، مغيباً بذلك المشروع الوطني العراقي، لصالح دولة الأحزاب والكانتونات.
وينبغي على القوى السياسية العراقية الفاعلة التفكير جدياً باعادة بناء الدولة على اساس المواطنة كونها الطريق المفضي إلى الحلول وإنهاء الازمة السياسية في البلاد، ذلك إن النظام السياسي الآن منتج للازمات لانه مبني على اسس طائفية. من هنا، فإن الحل هو اعادة بناء النظام السياسي ليس على اساس الطائفية وانما على اساس المواطنة، وتغليب الهوية الوطنية الجامعة.&
والسؤآل الأهم هو: كيف يُمكن بناء مثل هذا النظام الجديد الذي يُمكنه الحفاظ على وحدة العراق؟. وللاجابة على هذا السؤال الذي يزيده المشهد العراقي الموغل في التعقيد، لابد من تفصيل مشاريع القوى الرئيسية الثلاث التي تهيمن على العملية السياسية في عراق ما بعد 2003 .&
هناك شبه إجماع على ان الكرد يمتلكون مشروعهم الواضح .. انه مشروع الدولة الكردية، سواء الآن أو غدا أو بعد عشرات السُنّين، ولا يمكن لاحد ان ينكر بان اكثر مواقف الأحزاب الكردية في العراق تصب في هذا الاتجاه . وسُنّة العراق هم أيضا يمتلكون مشروعهم أو بالأحرى مشاريع متعددة، اهمها :
أولا : العودة إلى الحكم أو السيطرة على الحكم، أي استمرار لما كانوا عليه طيلة سنوات تشكيل الدولة العراقية بشكل عام، وان تكون بغداد هي الرئة التي يتنفسون بها، ولهم فيها الحصة الأكبر في الإدارة والتعيينات والعمران والحقوق والمشاريع .
ثانيا : هناك من سُنّة العراق من ينكر ذلك، ويرى ان عودة العراق إلى ما كان عليه من حيث غلبة اتباع مذهب على غيره بشكل وآخر عملية شبه مستحيلة أو صعبة، وتكلف الكثير من الدماء والخراب، ولذلك يطرحون مشروعا آخر، هو التواجد السُنّي القوي في الدولة، حكومة وبرلمانا وإدارة، خاصة في الدفاع والداخلية، وبقية مفاصل الدولة، وهو أيضا من حقهم، ولكن المشكلة تكمن في مساحة هذا الحق. ويشترك هذا الفريق مع سابقه في ضرورة ان تكون بغداد عاصمة الرشيد السُنيّة، أي للسُنّة اليد الطولى فيها .&
ثالثا : وهناك فريق يدعو صراحة إلى فيدرالية سُنيّة، تضم المحافظات السٌنيّة الصرفة، والتي فيها أغلبية سُنيّة، وهنا تكمن مشكلة المحافظات المختلطة، وتشكل احدى عقبات هذا المشروع، وقد طرح النجيفي وآخرون اكثر من مرة مشروع الفيدرالية السٌنيّة.
رابعا : فريق رابع يدعو إلى الانفصال حقا، وربما يعمل على ذلك، ولكن يبدو أنها دعوة ضعيفة ولا تتمتع بقدر من القناعة الصلبة لدى الأغلبية السٌنيّة في العراق التي كانت على الدوام تؤمن بالعراق الواحد الموحد.
اما شيعة العراق فهم الوحيدون الذين يملكون مشروعهم الواضح، الذي ابتدأه المجلس الأعلى عندما طالب بفيدرالية الجنوب، للسيطرة على محافظات الفرات الاوسط وجنوب العراق، الغنية بالنفط، لكن هذا المشروع جوبه برد شيعي قاس، رفض ظهور (امراء) يتحكمون بمقدرات الناس. لكن المشروع الشيعي لم ينته عند هذا الحد، بل انه وبتخطيط خارجي اتخذ شكلاً جديداً يتمثل بتقليص عدد السكان من العرب السُنّة من خلال سياسات ممنهجة، لافراغ البلاد منهم (السُنّة)، او على الاقل حصرهم في جيوب محددة، بهدف دفعهم الى المنافي والمهاجر، وهذا ما حدث فعلاً لتبقى الغلبة للطائفة الشيعية واقعاً على الأرض.&
وبالرغم من ان التطورات التي شهدها العراق منذ سقوط الموصل بيد عناصر تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) في التاسع من حزيران/يونيو الماضي ومن ثم سيطرتها على اجزاء واسعة من محافظات اخرى، تجعل الاولوية لدحر التطرف المتمثل بتنظيم الدولة الاسلامية، واسترجاع الاراضي الخارجة عن سلطة الدولة. لكن هذا الامر يتطلب مقاربتين: سياسية تكسب قلوب وعقول ابناء المحافظات السُنيّة، وعسكرية تعالج اسباب هزيمة القوات المسلحة العراقية (اربع فرق عسكرية يزيد تعدادها على ٦٠ الف جندي وضابط مع اسلحتهم) امام بضعة آلاف من المسلحين.
ورب ضارة نافعة، كما تقول العرب، فقد وحّد تهديد (داعش)، السُنّة والشيعة ومعهم الاكراد لمواجهة التهديد الارهابي، وهنا يجب على القادة السياسيين استثمار هذا الموقف، من أجل الحفاظ على وحدة العراق، والنظر الى حكومة العبادي على اساس انها حكومة انتقالية ذات مهمات محددة، يُمكنها أن تؤسس لعهد جديد يتجاوز اخطاء وخطايا العقد الماضي.&
ويدور في كواليس الساسة العراقيين همس يشير الى احتمال أن يدعو رئيس الوزراء حيدر العبادي الى انتخابات برلمانية مبكرة، منتصف عام 2016، بضغط بريطاني – اميركي، كما يقولون، وربما سيذهب الرجل (العبادي) الى تشكيل تحالف عريض من عرب العراق حصراً: السُنّة والشيعة ، لاسيما إن الظروف التي جاءت به الى الحكم تعطيه الحرية كي يمثل قوى الاعتدال العراقية برمتها في مواجهة التطرف بأشكاله وطوائفه المختلفة.&
ويعيش العراق، منذ الاحتلال، حال صراع هويات حيث أسقطت الهوية العراقية لمصلحة (مكونات) قسم بموجبها الشعب إلى (شيعي) و (سنّي) وكردي وتركماني وغيرها من أقليات، وأسقط عملياً تعبير المكون العربي، في حين يشكل عرب العراق أكثر من 75 بالمئة من السكان وهم العمود الفقري للدولة، وما كان له أن يُكسر إلا بتقسيمه إلى مكونات ليصبح التقسيم خياراً مفروضاً. وعراق يتشكل من (مكون عربي) وآخر كردي يوفر صيغة مناسبة لحكم فيدرالي مع ترك الفرصة للأكراد لتقرير مصيرهم بما لا ينهي بقية العراق العربي.
من هنا، فإن وحدة السُنّة والشيعة مطلب وطني كونهما اللبنة الاساسية والعمود الفقري للشعب العراقي, من خلال العمل المشترك على اساس وطني يعيد الاعتبار لهوية العراق العربية. ما يعني ان رأب الصدع لن يكون على يد الاحزاب الاسلامية التي شرعنت الفتنة، وأسست للتقسيم الطائفي قبل الاحتلال وساندتها الولايات المتحدة الاميركية منذ ان جعلت التمثيل الشيعي في مؤتمر لندن اكثر من التمثيل السُنّي، ثم جاء المندوب السامي الاميركي بول بريمر ورسخ الطائفية.
بيد أن دحر (داعش) بأي ثمن قد يتم على حساب بقاء العراق دولة مستقلة، بإقامة كيان شبه مستقل سُنّي وآخر شيعي إلى جانب الكردي ليصبح العراق دولة (كانتونات) طائفية واثنية، وهو أمر يجد صدى شعبياً لدى البعض.&
&
كاتبة عراقية