الجانب المدهش والمبهر في سيرة عبد الرحمان بن خلدون (1332-1406) هو أنه عاش خطوبا وأحداثا ومحنا جساما، منها تعلّم الكثير واختبر الحياة والنّاس، واستخرج عبرا ساعدته على مواجهة مختلف المحن والمصائب التي أبتلي بها في مراحل مختلفة من حياته...

ففي سنّ السّابعة عشرة، ضرب طاعون جارف حاضرة تونس حيث ولد ونشأ، &فهلك والداه وعدد كبير من أهله. كما هلك البعض من العلماء الذين درّسوه في جامع الزّيتونة. وبسبب الفراغ الذي حدث، لم يتحمّل ابن خلدون جراح تلك الكارثة، ففضّل ترك مسقط رأسه ليتوجّه إلى فاس مُلتحقا بأستاذه وشيخه المفضّل الآبلي.&

وفي فاس، عاصمة بني مرّين، حكّام المغرب آنذاك، ارتبط ابن خلدون بعلاقات وثيقة بأهل السياسة والقضاء والأدب والفكر. وبسبب ما تميّز به من فطنة ومن ذكاء في مجالات متعدّدة، عيّن كاتبا في قصر السّلطان أبي إسحاق إبراهيم بن أبي بكر. وقد خوّل له منصبه الرّفيع، التدخّل المباشر في شؤون السياسة، وفي الصّراعات الدائرة على أشدّها بين أهل السلطة والنفوذ. إلاّ أنه لم يلبث أن اتّهم بالمشاركة في المؤامرة التي حيكت ضدّ السلطان المريني، فألقي به في ظلمات السّجن ليمضي فيه سنتين كاملتين. وفيما بعد، سوف تساعده تلك التجربة المريرة والقاسية على تقديم تحليل رائع ودقيق عن العلاقة بين "السّيف والقلم ". وهو يعني بذلك العلاقة بين أهل السّلطة والنّفوذ، وأهل الفكر والثقافة. ومن جديد استعاد ابن خلدون منصبه الرّفيع ليزداد خبرة بخفايا السياسة وأهلها، ولينغمس مرّة أخرى في الدسائس والمؤامرات. ولمّا استشعر المخاطر التي يمكن أن تنجم عن ذلك، ترك عاصمة بني مريّن حيث كانت الصّراعات على السّلطة في أوج احتدامها لينطلق إلى غرناطة، عاصمة بني الأحمر آنذاك ليعيش مغامرت وأحداثا أخرى لا تقلّ أهميّة عن تلك التي عاشها حتى ذلك الوقت.

وفي غرناطة وثّق صلاته بالوزير الشّاعر الأندلسي لسان الدبن بن الخطيب الذي كان قد تعرّف عليه في فاس. وخلال الفترة التي أمضاها في بلاد الاندلس، اكتشف ابن خلدون أحوال العالم المسيحي. حدث ذلك عندما عيّنه بنو الأحمر في سفارتهم في اشبيلية، عاصمة مملكة قشتالة النصرانيّة. ورغم النجاح الكبير الذي حقّقه في مهمّته، خيّر ابن خلدون ترك بلاد الأندلس بسبب الجفاء الذي &حصل بينه وبين صديقه الحميم ابن الخطيب. وفي سيرته يشير ابن خلدون إلى أن تلك الجفوة حصلت بسبب "الأعداء وأهل السعايات " الذين حرّكوا لدى صديقه "جواد الغيرة فتنكّر له". وفي بجاية التي قصدها بعد مغادرته غرناطة، رفض ابن خلدون منصب الحجابة، وهو منصب رفيع في ذلك الوقت.

وبعد أن عاش تجارب سياسية خطيرة في المغرب الاوسط (الجزائر اليوم)، اختار ابن خلدون الإقامة في قلعة بني سلامة ليتفرّغ في تلك "الخلوة" البعيدة عن صخب عالم السياسة ودسائسها ومؤامراتها، إلى كتابة "مقدمته" الشهيرة. والمأثرة التي يشهد له بها الجميع، القدماء كما المحدثون، هو أن ابن خلدون لم يحذر في عمله المذكور بطش الحكّام والسّلاطين وذوي النّفوذ مثلما فعل العديد من المؤرخين العرب والمسلمين، ولم يزوّر التاريخ، بل هو أفصح عن الحقائق، وعن الوقائع التاريخيّة، وبحث في الأسباب الموجبة لعلوّ شأن الممالك وانحطاطها، وفي أطوار الدول واختلاف أحوالها، وفي معنى الخلافة والإمامة، ،وفي انتقال الدولة من البداوة إلى الحضارة، وفي مفهوم الاستبداد، وفي أسباب تشبّث العرب بالحكم، وفي العمران البدوي والحضري، وفي الأمم الوحشيّة والقبائل، وفي العديد من القضايا والمسائل الخطيرة الأخرى التي تحفل بها "المقدّمة"...

مُثْخَنا بجراح تجاربه المريرة، عاد ابن خلدون إلى موطنه تونس بعد أن أنهى" المقدّمة"، وكان آنذاك قد تجاوز سنّ الأربعين. وفي الحين، شرع في تدوين "العبر" في تاريخ الأمم والملوك والقبائل. ولما فرغ من ذلك، أهدى نسخة من كتابه إلى الملك الحفصي، حاكم تونس في ذلك الوقت. وفي جامع الزيتونة، حظيت دروسه بتقدير الطلبة وإعجابهم فتوافدوا لسماعها بأعداد وفيرة. وقد أشعلت شهرة ابن خلدون في العلم والمعرفة غيرة الإمام ابن عرفة الورغمّي المعروف بتزمّته وانغلاقه، فراح يؤلبّ عليه الطلبة والشيوخ، وأهل السلطة والنفوذ. ولما أدرك ابن خلدون أن معركته ضدّ أعدائه لن تكون مجدية ولا نافعة، ترك موطنه من جديد غير آسف فلن يعود اليه أبدا.

ومرة أخرى عاش ابن خلدون نكبة مؤلمة. فقد غرق جميع أفراد عائلته في الباخرة التي كانت تنقلهم من تونس الى الإسكندريّة جرّاء عاصفة هوجاء. وفي القاهرة حيث استقرّ به المقام، عرف ابن خلدون المجد والشهرة مدرّسا وقاضيا، وعاش أحداثا عمّقت تجاربه في الحياة، وواجه المؤامرات والدسائس بصبر وحنكة. وكان قد أشرف على السبعين عندما ترك القاهرة ليزور دمشق. وهناك عاش حدثا عظيما تمثّل في لقائه بتيمورلنك. وهو يروي تفاصيل ذلك اللقاء بدقّة قائلا بأنه لمّا كان في بلاد المغرب، سمع "كثيرا من الحدثان في ظهوره"(يقصد تيمورلنك). وفي جامع القرويّين بفاس، حدّثه خطيب مدينة قسنطينة أبو علي بن باديس عن "ثائر عظيم في الجانب الشمالي الشرقي، من أمّة بادية أهل خيام، تتغلّب على الممالك، وتقلب الدول، وتستولي على أكثر المعمور". وكما هو معلوم تمّ اللّقاء بين صاحب "المقدّمة" وتيمور لنك في دمشق. ودار الحديث بينهما عن بلاد المغرب، وعن فاس، وعن طنجة الواقعة على الخطّ الفاصل بين المتوسّط والأطلسي، وعن سبتة التي منها "التعدية" إلى الأندلس، وعن سجلماسة "في الحدّ ما بين الأرياف والرّمال من جهة الجنوب". وفي نهاية اللقاء الأوّل، طلب تيمور لنك من ابن خلدون أن يدوّن له كلّ هذا ففعل . وأما في اللّقاء الأخير، فقد عبّر الطاغية التّتري عن رغبته في شراء بغلة ابن خلدون. غير أن هذا الأخير فضّل إهداءه ايّاها قائلا :"مثلي لا يبيع من مثلك إنّما أنا أخدمك بها، وبأمثالها لو كانت لي". وعند عودة ابن خلدون إلى مصر، جاءه مبعوث من تيمور لنك وسلّمه ثمن البغلة غير أنه لم يقبله إلاّ بعد أن أذن له ملك مصر بذلك. وهكذا "حمد الله على الخلاص" كما يقول في "رحلته شرقا وغربا”. ولا أحد يدري لماذا أصرّ تيمور لنك على شراء بغلة ابن خلدون، ،وهو المحارب والغازي الذي كانت تهابه كلّ ممالك الشرق وعروشها الكبيرة والصّغيرة في ذلك الوقت. ولا أحد يدري لماذا أحبّ ابن خلدون أن يروي قصّة بغلته وهو العلاّمة المنشغل بما كانت تعانيه ممالك الشرق، وبلاد المغرب من أزمات، ومن اضطرابات خطيرة سوف لن تلبث أن ترمي بها في ظلمات ليل مديد ….مع ذلك نقدر أن نقول أن قصة البغلة الطريفة لا تدلّ على "انتهازيّة" ابن خلدون، وعن مداهنته للغازي الطاغية تيمور لنك كما ذهب إلى ذلك بعض المؤرخين والمفكرين، وإنما هي تؤكّد لنا نزاهته وصدقه في رواية أحوال الضعف والقوّة عنده. كما تؤكّد لنا حنكته السياسية في التخلّص من الفخاخ التي ينصبها له أهل السّلطة والنفوذ، وقدرته على اكتساب تقديرهم واحترامهم بهدف التّدقيق في ما توصّل إليه من نتائج في أبحاثه خلال مسيرته الفكريّة الطويلة. أفلم يفعل ذلك كلّ من غوته وهيغل عندما غزا بونابرت ألمانيا؟&