يوم الأحد الموافق للخامس عشر من سبتمبر من العام الحالي، عاش التونسيون ليلة سوداء كتلك التي عاشوها في الرابع والعشرين من أكتوبر2011&، حين صعدت حركة النهضة الإسلامية الى سدة الحكم. فقد أفضت الانتخابات الرئاسية الى مفاجأة لم تكن متوقعة من قبل أكثر الخبراء معرفة بالشأن التونسي إذ صعد إلى الدور الثاني كل من قيس سعيد، ونبيل القروي. الأول أستاذ متقاعد في القانون الدستوري، يشاع أنه قريب من السلفيين المتطرفين، ومن القوميين المتشددين الغيورين على اللغة العربية الفصحى لذا هو يحرص على استعمالها حتى عندما يطلب قهوة، أو يشتري خبزة من عطّار الحي. ومنذ سقوط نظام بن علي قبل نحو ثمانية أعوام، دأب قيس سعيد المتجهم السحنة دائما، على إرضاء المتشددين دينيا في كل تصريحاته وأقواله.& كما أ نه كان يتحفظ على ادانة العمليات الإرهابية التي ضربت البلاد على مدى السنوات الثمانية الماضية. وعندما دعا الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي إلى سنّ& قانون جديد يقضي بالمساواة& في الميراث بين المرأة والرجل، كان& هو من أ ول الرافضين لهذا القانون. وربما لكي يثبت تعاطفه مع السلفيين من أنصار "حزب التحرير"، لم يتردد قيس سعيد في التصور في إحدى المقاهي الشعبية بالعاصمة مع رضا بالحاج، زعيم الحزب المذكور. كما تصور مع نشطاء ما يسمى ب"روابط حماية الثورة" الذين ارتكبوا العديد من أعمال العنف خصوصا عندما كانت حركة النهضة في السلطة. لذلك تم اصدار قانون يمنعهم من النشاط. مع ذلك هو يظهرون من حين لآخر في تجمعات وتظاهرات رافعين شعاراتهم المعادية للأحزاب والمنظمات المعروفة بتمسكها بضرورة الفصل بين الدين والدولة. وفي الحوارات التي أجريت معه خلال الأشهر والأسابيع التي سبقت الانتخابات الرئاسية المبكرة، بدا قيس سعيد شبيها بالقذافي. فقد أ علن أنه سيقوم بتحجير النشاطات الحزبية، بل قد يقوم بحل البرلمان ل"فرض القانون على الجميع" ، واعدا الشباب بتوفير فرص عمل، وفتح آفاق المستقبل. ورغم أنه فضفاض، وغير واضح الملامح، فإن هذا الخطاب أغرى أعدادا غفيرة من الشباب المتعلم العاطل عن العمل. كما أغرى فقراء الأرياف والأحياء الشعبية في المدن الكبيرة. لذلك صوتوا له بكثافة يوم الأحد الماضي...

وأما الصاعد للدور الثاني فهو نبيل القروي الذي تم سجنه قبل أسبوعين فقط من الانتخابات الرئاسية المبكرة بتهمة "التهرب الضريبي". وهو لا يختلف كثيرا في توجهاته الشعبوية عن منافسه قيس سعيد. فقد استغل وفاة ابنه الأكبر في حادث سيارة قبل نحو ثلاث سنوات، ليقوم بجولات متعددة في جل مناطق البلاد قدم خلالها مساعدات غذائية للفقراء والمسنين. وقد وفرت له تلك الجولات قاعدة شعبية كانت بالتأكيد هي الضامنة لصعوده المدوي إلى الدور الثاني، منتقما بذلك من داخل زنزانته بسجن "المرناقية" بضواحي العاصمة من خصمه اللدود، يوسف الشاهد ، رئيس الحكومة الذي أرسله إلى هناك بطريقة مهينة بهدف منعه من الترشح للرئاسية بعد أن أثبتت جل مصادر سبر الآراء أنه قد يكون منافسا شرسا له.&

وما يمكن استخلاصه من كل هذا هو أن الانتخابات الرئاسية المبكرة كشفت أن الأحزاب السياسية التي برزت بعد سقوط نظام بن علي، عاجزة عن إدارة شؤون البلاد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، خائنة بذلك الوعود التي قطعتها على نفسها في بداية تسلمها للسلطة. كما كشفت أن هذه الأحزاب تتناحر وتتصارع لا من أجل مصالح البلاد والشعب، بل من أجل الكراسي، والوجاهة السياسية، غاضة الطرف عن الفساد الذي ينخر الاقتصاد التونسي أكثر من أ يّ وقت ومضى. لذلك جاء التصويت لصالح قيس سعيد، ونبيل القروي وكأنه عقاب لها، ولوعودها الكاذبة، ولديمقراطيتها المزيفة.&

الأمر الآخر الذي يمكن استخلاصه هو أن الشعبوية التي اكتسحت العالم خلال السنوات الماضية، ومدت جذورها حتى في البلدان الغنية، العريقة في الديمقراطية، وجدت في تونس مناخا مناسبا، وأرضا خصبة للتوسع، والتمدد داخل مجتمع يعيش الخوف واليأس والحيرة منذ سنوات عديدة.&

وأما الخاسرون فهم كثيرون. أولهم يوسف الشاهد رئيس الحكومة الذي جند كل امكانياته للفوز بالرئاسية، لكنه مني بفشل ذريع لتكون مرتبته قريبة جدا من مرشحين بلا أحزاب، وبلا إمكانيات، وبلا قاعدة شعبية. والواضح أن اليساريين المتطرفين المتمثلين فيما يسمى ب الجبهة الشعبية" ذات الميول الماركسية والقومية لم يستفيدوا من دروس الماضي. ورغم أنهم يعلمون جيدا أنهم لا يمتلكون قاعدة شعبية صلبة، فإنهم تصارعوا فيما بينهم ليقدموا في النهاية ثلاثة مترشحين حشروا جميعهم في ذيل القائمة بنسب مهينة ومخجلة. مع ذلك، طلعوا في اليوم التالي على الناس باسمين، غير واعين بدورهم الخطير في وضع بلادهم على حافة هاوية قد تكوت قاتلة ومُهلكة للجميع.&

&