لعل المكسب الأعظم من انتفاضة أهل لبنان والعراق حتى لو لم تتحقق المكاسب السياسية، والإصلاحات الإقتصادية الحقيقية،&&هو إعلاء قيمة "الوطن" فوق المعتقد الديني، والفكر الطائفي، وعنصرية العرق والأصل، فالشيعي العراقي يتبرأ في الوقت الراهن من الإنتماء للمرجعية السياسية الإيرانية، ولا يرى سوى مرجعية واحدة لوطن إسمه العراق يتطلع لاستعادة الكبرياء، ويحلم بالعودة قوياً وكبيراً متحرراً من سيطرة القوى الخارحية.

&والشيعي اللبناني لم يعد يرى نصر الله ظل الله على الأرض، والسني اللبناني يتحرر شيئاً فشيئاً من أي فكرة تنازعه في عشق للوطن، والمسيحي اللبناني يطرد من داخله أي شكوك تمنعه من الإيمان بأن السني والشيعي ما هم إلا شركاء وطن قبل كل شئ، فلم يعد هناك وقت أو طاقة لاستعلاء أي طائفة على الأخرى، فقد تم اختطاف وطن الفن والثقافة والحضارة باسم التجاذبات الطائفية التي لعبت على أوتارها قوى خارجية يمثلها حفنة من المنتفعين في الداخل.

وفي مصر لايزال هناك شبح يطارد أهلها، وقد يجعلهم يعانون من فكرة تعيش تحت السطح وتتغذى على السرية،&&ولا تملك الجرأة لاقتحام دائرة العلنية تقوم على أن المصري المسيحي أكثر إيماناً بمصر الوطن أكثر من غيره،&&وسبب هذا الإعتقاد سياسي ديني تاريخي في الأساس، حيث يسيطر الهاجس التاريخي الذي يقول أن "مصر المسيحية" تم احتلالها من جانب العرب، لتتحول كرهاً إلى كيان عربي إسلامي، على الرغم من أن مصر بها ما لا يقل عن 15 إلى 20 مليون مسيحي حتى اليوم، لم يتحولوا إلى الإسلام، ولا يواجهون حرباً تجبرهم على هذا التحول، بل إنهم يحق لهم ألا يعترفوا بأنهم عرباً.

وفي الوقت ذاته، وفي حال اعتبرنا الغالبية الكاسحة من أبناء مصر "مسلمون ينتمون للطائفة السنية"، على الرغم من أن المصري المسلم "على المستوى الشعبي" لم يكن يدرك أنه "سني" إلا قبل سنوات، وتحديداً مع اندلاع الصراع السني الشيعي في المنطقة، في حال اعتبرنا مصر مسلمة سنية، فإن الملايين من أتباع التيار الديني الإخواني لا يؤمنون كثيراً بفكرة المواطنة، فالعقيدة الراسخة لديهم تقوم على حلم "الخلافة الإسلامية" على حساب الوطن، ويكفي دليلاً على ذلك أن المرشد العام السابق للجماعية الإخوانية مهدي عاكف قالها بكل وقاحة :"طز في مصر" في إشارة لإعلاء نفوذ الجماعة، والرغبة في تحقيق حلم الخلافة.

وفي دول الخليج العربي ستظل هناك قنبلة موقوتة تسمى شيعة الخليج، الذين يجب على الجميع حمايتهم من التفكير في أن هناك فكرة تعلو على "الوطن" والحماية هنا تعني عدم التفرقة بينهم وبين أي مواطن آخر، سواء على المستوى الإجتماعي أو السياسي، وفي حقيقة الأمر لا تتدخر غالبية الدول الخليجية جهداً في هذا الاتجاه التوافقي الذي يعلي قيمة الوطن، وإن كان الأمر لا يخلو من بعض المنغصات على فترات متباعدة، مصدرها بعض المتعصبين.

خلاصة القول إن الوطن يحمي ويجمع ويوحد، ويضمن للجميع حياة أفضل لا يظهر فيها شبح التفرقة بين أبناء الكيان الواحد، فيما تتسبب الطائفية وخلط الدين بالسياسة في أن نصبح مجرد ضحايا لقوى خارجية وتجاذبات سياسية وخطايا طائفية تقتل في داخلنا جميعاً فكرة الوطن.