حصل الكاتب الأمريكي ولف (1930-2018) على الشهرة بفضل روايته الشهيرة "محرقة الغرور" التي فضح فيها العوالم الداخلية لنيويورك من خلال الطبقة البورجوازية. وفي روايته "ميامي الدمويّة" التي ترجمت الى العديد من اللغات الأوروبية، ونالت إعجاب كبار النقاد في لندن وباريس وروما وستوكهولم، هو يتطرّق الى الهجرة والمشاكل المترتبّة عنها اجتماعيّا،واقتصاديّا،وسياسيّا وثقافيّا، وأخلاقيا.

وكان توم وولف قد ترددّ العديد من المرّات على ميامي التي تعتبر مركزا هاما للصّناعة السياحيّة. لكن شيئا فشيئا بدأ يلاحظ التغيّرات التي طرأت عليها بعد أن تدفق عليها عدد كبير من المهاجرين الكوبيين الذين فتحوا فيها بنوكا، وأنشأوا مصانع ومؤسسّات ضخمة درّت عليها مداخيل هائلة لتجعل منها في ظرف سنوات قليلة واحدة من أغنى المدن الأمريكبّة. ويعتقد توم وولف أن كلّ ذلك نتج عن استفحال ترويج المخدّرات، وانتشار البغاء. ومع تواصل تدفق أعداد جديدة من المهاجرين القادمين من بورتو ريكو، ومن كولومبيا، ومن المكسيك، ومن بلدان أخرى من أميركا اللاتينية، احتدت الجريمة المنظّمة، وقلّ عدد السكان البيض بصفة لم يسبق لها مثيل. لذا ليس من المستغرب بحسب توم وولف أن يصبح الأنجلو-سكسونيون البيض أقلية في العديد من المدن الأمريكية في النصف الثاني من القرن الواحد والعشرين! ويشير توم وولف أنه قام بأبحاث مضنية في ميامي، وسهر الليالي الطوال في ملاهيها الصغيرة والكبيرة، وأقام في فنادقها الفخمة والحقيرة وتردّد على نواديها السرّية قبل أن يشرع في كتابة روايته عن عوالمها المثيرة، وعن أجوائها المرعبة والمخيفة، وعن عصابات المخدرات والجريمة المنظّمة، وعن تجّار البغاء. وهو يقول إنه شاهد في فضاءات صغيرة أعدادا كبيرة من الفتيات الصغيرات يعرضن أجسادهن العارية على عشاق الجنس. وثمة من كانت تقوم بحركات مثيرة لتهييج المتفرجين. ومتحدثا عن تجربته،يقول توم وولف إنه انتسب الى عالم الصحافة في نيويورك. وكلّ سنتين، هو يعود إلى الجنوب الذي كان يعيش فيه سابقا، غير أننه لم يهتم به كثيرا، ولم يرغب في التعرف عليه بشكل جدّيّ. لكن بعد كارثة الحادي عشر من سبتمبر 2001، غيّر نظرته له. تمّ ذلك بعد أن صرّح رجلا دين أن الكارثة المذكورة لم تحصل بسبب المتطرفين الإسلاميين، وإنما بسبب استفحال المثليّة التي أغضبت الله في السماء. وطبعا كانت مثل تلك التصريحات سخيفة ومضحكة غير أنها صدمته كثيرا خصوصا بعد أن تبيّن له أن رجلي الدين ينتميان الى الولاية التي ينتمي اليها، وأنهما درسا في نفس الجامعة التي درَس فيها. ومنذ ذلك الوقت، أولى عناية خاصة بميامي.

&ويضيف توم وولف قائلا بأنه بدأ حياته صحافيّا، ولم يكتب روايته الأولى "محرقة الغرور "إلاّ في سنّ الرابعة والخمسين. والذي حرّضه على كتابتها بصفة غير مباشرة كان ويليام ماكبيس ثاكاري الذي ألّف رواية عن سحر الحياة البورجوازية في نيويورك. وهو يرى أنه شبيه بأزهار القطن التي تصنع في مصانع سكوتلندا. وحين يأتي الشاري،ينظر اليها ثم يقرّر أن يشتريها إن هي أعجبته، أو أنه يطرق بابا آخر بحثا عمّا يروق له. لذا هو يكتب فقط لمن هم معجبون به، ولن يكفّ عن الكتابة لأنها العمل الوحيد الذي يشعر عند القيام به بعظمة الحياة، وبسحر الوجود. ورغم الفوارق الشاسعة بين الفقراء والأغنياء في أميركا،فإن توم وولف لا يعتقد ان ذلك يمكن ان بفرّق بينهم مستقبلا. وهو يدعم رأيه هذا ببعض القصص قائلا بأنه من بين الأشياء التي تحمي بلاده هو أنه ليس من الممكن التحدث بشكل فظّ إلى نادل في مقهى،أو إلى عامل ميكانيكيّ. وعلى الأغنياء أن يتحدثوا الى الفقراء من دون إظهار الفروق التي تفصل بينهم، وإلاّ فإنهم يجلبون لأنفسهم مشاكل مزعجة للغاية. وهو يتذكّر أنه كان في التاسعة أو العاشرة من عمره عندما توقّف والده في محطة بنزين،وطلب باستعلاء من الميكانيكي أن ينقطع عن العمل الذي كان يقوم به،ليصلح قطعة في سيّارته، فكان ردّ الميكانيكي قاطعا :”عليك ان تصبر وتهدأ وتنتظر!”. وكان ذلك كافيا لكي يقتنع والده أنه من الضروري التعامل مع الآخرين على قدم المساواة. وكان الرئيس توماس جفرسون مثالا في هذا المجال. فبعد أن اعترفت بريطانيا باستقلال الولايات المتحدة الأمريكيّة،أرسلت سفيرها إلى البيت الأبيض ليدخل الى مكتب الرئيس جفرسون في الزيّ الرسمي واضعا على رأسه قبّعة تتدلّى منها ريشة، وحاملا سيفا على الطريقة البريطانيّة. أمّا جيفرسون فقد استقبله وقد انتعل خفّا. وكان جيفرسون هو أوّل من غيّر شكل الطاولات في البيت الأبيض لتصبح مدوّرة بعد أن كانت مستطيلة. والهدف من ذلك هو المساواة بين الجميع إذ لا يمكن لأيّ أحد أن يتصّدر المجلس.