في الأوقات العصيبة التي تتميّز بالعنف والحقد والبغضاء والفتن، وفيها يلجا الأقوياء كما الضّعفاء إلى القوّة لتصفية حساباتهم مع خصومهم البعيدين أم القربيبين، يكون الزعيم الهندي غاندي الذي لقّبه أهل بلاده ب"الماتهاما" (أي الرّوح الكبيرة) واحداً من السياسييّن والمفكرين القلائل الذين تستحضرهم الذّاكرة الإنسانيّة. فهذا الرّجل الذي ولد عام 1869، والذي نَذَرَ حياته للنّضال من أجل إستقلال بلاده، مواجها بالطرق السّلميّة الإمبراطوريّة البريطانية التي لم تكن تغرب عنها الشمس، كان من دعاة السلام والصّداقة بين شعوب الأرض، ومن الرّافضين للعنف،والقّوة. ولا تزال دروسه وحكمه في مجال السياسة حيّة في ذاكرة الأمم قاطبة. لذا لم يكن من الغريب في شيء أن يلقّبه الكثيرون ب" حكيم القرن العشرين".

وينتمي غاندي إلى عائلة مرموقة. وعندما فتح غاندي عينيه على العالم، كانت عائلته تحتلّ مكانة كبيرة في "بورباندار"، وهو ميناء صغير شمال موباي . وكان والده "كارا مشاند" وزيرا أوّل لدى الأمير الذي كان يحكم المدينة. وكانت عشيرته تنتمي إلى طبقة "سامية"، هي طبقة التجّار المسمّين ب"البانيا". وقد تزوّج غاندي الذي كان إسمه آنذاك موهنداس، وهو في الثانية عشرة من عمره من فتاة فائفة الجمال غير أنها كانت أميّة.

وقد ظلت تلك الفتاة زوجته حتى النهاية . وفي ما بعد سوف ينتقد غاندي الزواج المبكّر، موجّها اللّوم إلى والده الذي أجبره على ذلك. وفي لندن حيث دَرَسَ القانون، أصبح غاندي نباتيّا. كما إكتشف المسيحيّة، وقرأ الإنجيل بشكل جديد مُسْتلهما منه دروسا ومواعظ كثيرة في الأخلاق، وفي السياسة.

وفي إفريقيا الجنوبيّة حيث عَمَلَ محاميا على مدى عشرين عاما وجد نفسه مُجبرا منذ البداية على مواجهة العنصريّة البيضاء. وثمّة حادث كان له تأثير حاسم على تفكيره،وعلى فلسفته في الحياة،وفي السياسة...حدث ذلك في القطار يوم 21 مايو-أيّار 1893.آنذاك كان غاندي في الرابعة والعشرين من عمره.وكان من ركّاب الدرجة الأولى، إلاّ أنه لم يكن عالما بأن القوانين العنصريّة تحرّم عليه ذلك. وفي لحظة مّا قام أحد الركّاب البيض بالتّبليغ عنه. وبالرغم من أنه كان قد دفع تذكرته، وكان يرتدي بدلة أنيقة، فإنّ غاندي طُرد بالقوّة من العربة، وتمّت إهانته بشكل أحدث في روحه جرحا سوف يظلّ مفتوحا حتى وفاته. وذاك الجرح هو الذي دفعه إلى الشروع في النضال من أجل حقوق الهنود الذين كانوا كثيرين آنذاك في جنوب افريقيا.

وقد نصحه البعض بالّلجوء إلى الكفاح المسلّح غير أنه رفض ذلك رفضا قاطعا.ولعلّ قرءاته لأعمال الروائيّ الرّوسيّ العظيم تولستوي هي التي "أنقذته من داء العنف" بحسب تعبيره. لذا فضّل منذ البداية النّضال بالطرق السّلميّة، مؤسّسا حزبا، ومُصدرا جريدة "أنديان أوبنيون". وشيئا فشيئا أصبح سياسيّا معروفا، ومحاميا ناجحا...

وفي عام 1906، ثار "الزّولو" ضدّ البريطانيّين . وقد تعاطف غاندي معهم غير أنه فضل أن تكون الحكمة السياسيّة هي التي تقتضي منه أن يظهر مولاته للإمبراطوريّة البريطانيّة. وفعلا قام بذلك. ففي تلك الفترة لم يكن يفكّر في المطالبة بالإستقلال. وكان هدفه الأساسي هو الدفاع عن حقوق الهنود المدنيّة، لكن من داخل النظام وليس من خارجه. لهذا السبب تطوّع في الجيش البريطانيّ كممرّض، وواجه "الزولو" المتمرّدين.

وكانت المعارك قاسية وعنيفة ودمويّة. وقد عاين غاندي مشاهد مروّعة كان فيها العنف بارزا وطاغيا بشكل مخيف. وأمام تلك المشاهد حدثت الصّدمة العنيفة التي ستقوده إلى الضّوء... الضّوء الذي سيغيّر حياته تغييرا جذريّا. وفي ما بعد سيكتب قائلا بأنه اكتشف الحقيقة فوق أرض المعركة، واهتدى إلى أنّ النضال السلمي هو الطريقة المثلى لمقاومة الإستعمار البريطاني الجاثم على بلاده منذ منتصف القرن الثامن عشر. ولعل ذلك يعود الى التأثير الذي حدث له من خلال قراءته لأعمال الكتاب الروسيا ليون تولستوي، والتي كان ينتقد فيها بحدة الارستقراطية الروسيّة، وجشعَها وحبّها للثروة واحتقارَها للفلاحين وللطبقات الفقيرة والمعدمة. وقد كتب تولستوي يقول ذات مرة:"إن المجموعة الصغيرة من الناس التي تهيمن على الجماهير الغفيرة للعمّال، والتي تتمتّع بكلّ ما تنتجه هذه الجماهير، تعيش البطالة، وفي ترف غير معقول، وتنفق بلا حساب وبطريقة بشعة، غير أخلاقيّة من أجل إسعاد نفسها". ولكي يقرن القول بالفعل، تخلّى تولستوي عن أراضيه لصغار الفلاحين(الموجيك)، ومثلهم أٌخذ يرتدي ثيابا بسيطة، ويصنع أحذيته بنفسه. وثمّة مفكّرون وفلاسفة أناروا السبيل أمام غاندي. فإلى جانب تولستوي ، تأثر غاندي كثيرا بأفكار الأمريكي دافيد ثوورو صاحب فكرة "العصيان المدني". ومثله أصبح يعتقد أن المواطنين لهم الحقّ والواجب في عصيان القوانين المعادية للأخلاق. بالإضافة إلى ذلك، كان ثورو يعتقد أن ما يكتسب بالقوّّة لا يمكن المحافظة عليه إلاّ بالقوّة. وكان يقول:”الغاية في الوسائل مثل الشجرة في البذرة" .

وعند عودته إلى الهند، دعا غاندي شعبه إلى النّضال ضدّ االاستعمار البريطاني بالطرق السّلميّة، وبواسطة ما سمّاه ب"العصيان المدني"، حاثّا شعبه على العمل من أجل التخلص من كلّ تبعيّة للاستعمار وذلك من خلال رفض كلّ منتوجاته، وعدم تقليده في طرقه الحياتية والفكرية. كما طالبه بالتعلق بثقافته الأصلية، وباللغات المنتشرة في الهند، والتي كان الاستعمار يعمل على تدميرها لتسهيل سيطرة لغته على جميع الفئات. وقد كتب غاندي يقول:"إنّ الحضارة الحقيقية لا تقتضي منّا الاكثار من الرغبات والضروريّات، وإنما الحدّ منها اراديّا. تلك هي الطريقة الوحيدة لكي ننعم بالسعادة الحقيقيّة، ونصبح قادرين على الاهتمام بالآخرين ومساعدتهم". ومتوجها بنصائحه الى الهنود، كتب غاندي يقول:” علينا ألاّ نحتفظ إلاّ بتلك الأشياء التي لا يملكها الآخرون”...

وبسبب مواقفه، سجن غاندي العديد من المرّات، ولجأ إلى الإضراب عن الطّعام للتّعبير عن رفضه للأساليب الإستعماريّة. و بعد حصول الهند على استقلالها،وذلك عام 1947، حاول التّوفيق بين المسلمين والهندوس، مُعارضا إنفصال باكستان عن الهند. غير أنه لم يفلح في ذلك.و في 30 يناير-جانفي 1948، اغتاله أحد المتطرّفين الهندوس. وقد علّق العالم الشّهير أينشتاين على ذلك الحدث الفاجع قائلا:"سيكون من الصّعب على الأجيال القادمة أن تدرك أن هذا الرّجل،(يعني غاندي) الذي من لحم ودم، عاش فعلا بين الناس!”.
وكان غاندي يصلّي باسم الهندوس، وباسم المسلمين، وباسم المسيحييّن . وكان يخيف الأعداء، ويحترم الضّعفاء. وحتى النهاية، جعل من رفض العنف فلسفته في الحياة وفي السياسة.

وكان أنصاره يسمّونه "بابو" أي "الأب" باللغة الهنديّة.وحتى هذه السّاعة لا يزال غاندي حاضرا في قلوب أبناء شعبه، كما في قلوب المناهضين للقوّة والعنف في جميع انحاء المعمورة. ولا تزال صوره بزيّ زاهد متقشّف تزيّن الأوراق النقديّة، وطوابع البريد، وجدران المدارس والجامعات الهنديّة.

وهناك زعماء كثيرون تأثّروا بغاندي، وبأفكاره مثل المناضل الزّنجي الأمريكي مارتن لوثر كينغ، والزعيم البولوني ليش فاليزا والزعيم الإفريقيّ نلسون مانديلا.وفي نهاية حياته، ورغم تنديده بما تعرّض له اليهود خلال الحرب الكونية الثانية أدان غاندي قيام دولة اسرائيل قائلا: "يرتكب اليهود خطأ فادحا عندما يريدون أن يفرضوا وجودهم في فلسطين بالقوّة، وبمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية".