من كتاب د. نسيم قزاز "تاريخ يهود العراق المعاصر" الذي صدر حديثا عن رابطة الجامعيين اليهود المنحدرين من العراق في إسرائيل – 2020

مقدمة

في 1 و2 حزيران 1941 (قبل 79 سنة) تعرض يهود بغداد لما يسمى بمذبحة الفرهود والتي راح ضحيتها نحو 180 قتيلا من أبناء الطائفة اليهودية الوادعين وأكثر من ألفي جريح وما يقارب 40 ألفا من الذين نُهبت أموالهم وفُرهدت بيوتهم.

هذه اليوميات التي كتبت بيد شخصية مرموقة - ابراهام توينا - عاصرت صميم الأحداث تسلط الأضواء على جوانب شتى من حيثيات تلك المجزرة الرهيبة التي لم يتطرق إليها كاتب أو باحث من قبل. نشرت هذه اليوميات لأول مرة باللغة العربية كترجمة من العبرية من قبل الباحث والمؤلف د. نسيم قزاز في كتابه اعلاه وننقلها هنا للقراء للأمانة التاريخية.

المرحوم ابرهام توينا كان من علية القوم اشغل منصب اداري في إدارة الطائفة الإسرائيلية آنذاك وكان سكرتير لجنة ادارة مستودع الهلال الاحمر الذي أقيم في مدرسة شماش في 3 أيار 1941 لجمع التبرعات للجيش العراقي من التجار اليهود ب ومنذ ذلك الوقت ولأشهر بعد حوادث الفرهود مع امين صندوق الجمعية التي أقيمت لرعاية المتضررين ولعوائل الضحايا واليتامى. وكذلك لعب دور في التنسيق مع السلطات العراقية ولجان التحقيق

دون أبراهام توينا في يومياته أحداث ومعاناة يهود بغداد في شهر أيار 1941 وهو الشهر الذي دارت فيه الحرب بين الجيش العراقي وقوات بريطانية بعد وصول امدادات عسكرية من الهند. هذا الشهر عرف عند يهود العراق ب- "بشهر رشيد عالي". ودون توينا أيضاً وقائع مذبحة الفرهود في يومي 1-2 حزيران 1941 والأحداث التي تلتها.

سننشر مقتطفات من اليوميات في ثلاث أجزاء تتبع التسلسل التاريخي 1- الأسابيع التي سبقت الفرهود , 2- يومي الفرهود 3- الأيام التي تبعت الفرهود

د. خضر (ديفيد) بصون

الجزء الأول من اليوميات – الأسابيع التي سبقت مجزرة الفرهود -أيار 1941 "شهر رشيد عالي"

خلفية الجزء الأول (بقلم د. نسيم قزاز) - عُرف شهر أيار/مايس من عام 1941 عند أبناء الطائفة اليهودية في العراق ﺒ -"شهر رشيد عالي" وفي هذا الشهر تدهور وضع اليهود من سيء إلى أسوأ, وسادت الفوضى في بغداد وتصاعدت الدعاية النازية والتحريض ضدهم ومعها الاعتداءات عليهم في الشوارع وفي الأسواق, وسيق البعض منهم إلى مراكز الشرطة بتهم واهية كاتصالات لاسلكية مشبوهة مع العدو الإنكليزي أو الادعاء بأنهم صهاينة وإلى غير ذلك من الاتهامات التي ما أنزل الله بها من سلطان والتي لا أساس لها من الصحة. ولاقى البعض من هؤلاء اليهود حتفهم من جراء الضرب والطعن بالخناجر والسكاكين قبل الوصول بهم إلى مراكز الشرطة.

مقتطفات من اليوميات

3 أيار- تم تحويل "مدرسة شماش" إلى مخزن لأغراض "جمعية الهلال الأحمر" بأمر من أمين العاصمة أرشد العمري الذي كان رئيس هيأتها. وترتب على لجنة شكلت من وجهاء يهود برئاسة يوسف الكبير بجمع التبرعات نقداً, وإذا لم يتيسر للتجار اليهود سحب مبالغ من البنوك فعليهم التبرع ببضائع.

4 أيار- أتى إلى المدرسة طبيب يدعى مظفر الزهاوي وهدد أعضاء اللجنة يريد ابتزازهم ولكنهم, بعد تردد, رفضوا الاستجابة, وبعدها حام في الأسواق ودار على التجار اليهود وابتزهم.

5 إيار- دُعيتُ إلى مدرسة "راحيل شحمون" وطُلب مني تسليم البناية إلى "كتائب الشباب", وكذلك طلبوا مني تسليمهم مكتب المدير والخزينة. وخلال عدة ساعات تواجد في البناية ما يزيد على مائة فرد من الكتائب.

ويقول توينا: إن مدرسة "راحيل شحمون" تقع في قلب المحلات اليهودية, بينما تقع "مدرسة شماش" في شارع رئيسي بمنطقة يسكنها يهود ومسلمون.

6 أيار- في هذا اليوم حلقت طائرات بريطانية في أجواء بغداد, وأخذت جهات معادية تتهم اليهود بالتأشير والتلويح للطيارات, وفي هذا اليوم كانت معاناة اليهود صعبة, فقد ألقي القبض على كثيرين منهم وأودعوا رهن التحقيق, ومن بين هؤلاء كان التاجر مراد جوري, ولما علم بالأمر أخوه سليم أبراهام جوري توجه فوراً إلى محمد يونس السبعاوي وكان زميلاً له وساعده (ساعد السبعاوي) في الدراسة, فاستجاب السبعاوي واطلق سراح جميع الموقوفين.

مستشفى مئير الياس

في هذا اليوم, 6 إيار, عندما حلقت الطائرات البريطانية في أجواء بغداد تجمع رعاع خارج المستشفى اليهودي "مئير الياس", وتقدموا نحوه مدعين أن في داخله لجأ طياران بريطانيان يقومان بتوجيه الطائرات المقاتلة, وكذلك ادعوا أن هناك مواطناً بريطانياً يقوم بتوجيه الطائرات إلى أهدافها.

اخترق الرعاع المستشفى من خلال بوابتيه حاملين أسلحة متنوعة ودخلوا أقسامه المختلفة مطلقين النار عشوائياً وتحول المستشفى خلال بضعة دقائق إلى ساحة حرب, وتفاجأ العاملون داخل المستشفى وتعالت أصوات الخوف والهلع من كل صوب, وطلب المرضى المذعورون النجاة وأخذوا يفتشون عن مخبأ يقيهم شر الويلات, وأصيب مدقق الحسابات موشي بجرح بالغ في رأسه جراء ضربة فأس. وصادف أن أتى إلى المستشفى المدرس في مدرسة راحيل شحمون يوسف كوهين, وكان مرتدياً البزة العسكرية (ملابس الفتوة), فحافظ على خزانة المستشفى وبدأ بإعطاء تعليماته إلى الأطباء. وتوجهت الممرضة الرئيسة في المستشفى إلى الرعاع وقالت لهم تفضلوا فتشوا عن بريطانيين في المستشفى. ثم أوعز يوسف كوهين إلى الممرضة الرئيسة أن تتصل هاتفياً برئيس الطائفة ولكن مع مزيد الأسف لم يكن الخط صالحاً, لذلك ارتدت عباءة وغطت وجهها "بݒوشي" فخرجت من المستشفى واتصلت برئيس الطائفة.

وفي تلك الأثناء اقتحم الرعاع جميع أقسام المستشفى ونهبوا وضربوا المرضى رجالاً, نساءً وأولاداً, وخلفوا وراءهم خراباً في كل ناحية, ولم يكن هناك من رادعٍ. القى الرعاع القبض على الأطباء وعلى مدير المستشفى وعلى الممرضين والممرضات وخرجوا بهم إلى مخفر الشرطة, وفي طريقهم أطلقوا النار على الصيدلي معتوق حتينة وأردوه قتيلاً. أما يوسف كوهين, فقد انجلت هويته اليهودية لدى الرعاع ولكنه استطاع النجاة هارباً بالسيارة التي جلبت الثلج إلى المستشفى.

اتصل رئيس الطائفة بمدير الشرطة حسام الدين جمعة طالباً الإنقاذ, فارسل قوة من الشرطة, والقت القبض على بعض الرعاع, وأطلقوا سراح المخفورين من مركز الشرطة, وغادر المرضى المستشفى إلى بيوتهم, وأُغلق المستشفى. وأرادت السلطات أن تحوله تحت رعاية "جمعية الهلال الأحمر" لكن وجهاء الطائفة تمكنوا من إجهاض هذه المحاولة.

7 أيار- في هذا اليوم أجريت مراسيم حفل ختان في بيت يعقوب شالوم الواقع في "سوق الشورجة" التي يمر منها الكثير من السابلة. فأقبل الرعاع وكسروا الباب واقتحموا البيت والسكاكين بأيديهم وقتلوا شاباً يدعى شينا الياهو (شينا هو اسمه الخاص), وجرحوا أخا نسيبه عابد شالوم جراحاً بالغة.

وفي اليوم ذاته حاولوا البطش بمدراء محطات السكك الحديدية, وكانوا جميعهم من اليهود. فأصاب المدراء خوف وهلع وأردوا مغادرة محطات السكك, ولكن في حالة الطوارئ السائدة في البلاد يُعد إجراء كهذا مضراً بالمجهود الحربي وعقابه الموت. وفي ساعات الظهر تم لقاء وفد برئاسة رئيس الطائفة الحاخام ساسون خضوري مع رئيس الحكومة رشيد عالي الكيلاني, وكان شلومو ومراد كوهين, اللذان كانا يديران الشئون المالية والتجارية لرئيس الوزراء, قد سبقوا الوفد وشرحوا لرئيس الحكومة الوضع.

قرر رشيد عالي كبح جماح الأوساط التي تتآمر لإيذاء اليهود, فأصدر أوامره بحماية محطات السكك الحديدية, وكذاك أتاح لكل من يريد أخذ إجازة, أن يفعل, شريطة أن يجد بديلاً له. وقال لأعضاء الوفد بصراحة, إن كل هذا ليس لصالح المجهود الحربي, ووعدهم أنه طالما هو في السلطة لن يلحق أي ضرر باليهود.

8 أيار- بدأت دار الإذاعة العراقية منذ بداية الشهر تبث أناشيد حماسية وانتصارات في جميع الجبهات وأخباراً مهمة أخرى, من الساعة العاشرة والنصف صباحاً وحتى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل. وفي يوم الجمعة هذا (8 بالشهر) عادت ونشرت هذا الإعلان مرات عديدة -:

"نحن نريد أن يعلم الجمهور أنه من كثرة فرحه على النصر يسيء استعمال السلاح ويتلف الذخيرة سدىً ومن دون فائدة. إننا نريد أن يسود الهدوء في كل مكان, وبعد النصر على الإنكليز سننتقم من "العدو الداخلي" ونسلمه إليكم للقضاء عليه".

17 أيار- دخل اليوم إلى مكتبي الضابط طاهر يحي (الذي أصبح لاحقاً رئيساً للحكومة العراقية) ومعه يوسف عبودي, وكان في الدائرة آنذاك حوالي عشرة أشخاص, وبدأ الضابط المهذب يتكلم عن بطولة الجيش العراقي وجبن الإنكليز, واخرج مسدسه ووضعه على المنضدة واقسم بالله ثلاث مرات أنه اسقط في هذا المسدس وحده خمسة طائرات بريطانية. وبعد أن غادر المكان أخذنا نحصي عدد الطائرات التي أسقطت على غرار ما كنا نحصي في عيد الفصح عدد الضربات التي تلقاها المصريون أيام النبي موسى.

22 أيار- بلغنا اليوم أنه قد ألقي القبض على طالب يهودي كان بحوزته كتابُ باللغة الإنكليزية, فاتهم بالتجسس, اتصلنا بالحاخام ساسون خضوري, وتمكن من الإفراج عنه بعد دفع الرشوة لمدير مركز الشرطة.

28 أيار- بلغنا أن الحكومة ستغادر المدينة مساءً, الوضع متوتر, اليهود أغلقوا حوانيتهم بعد الظهر. تلقينا أوامر لإرسال كميات كبيرة من المواد لرجال الجيش المندحر في المعركة, فاشتغلنا حتى الساعات المتأخرة, وعلمنا بعد ذلك أن المواد لم تصل إلى أماكن وجهتها بل إلى منازل وبيوت خاصة.

29 أيار- استُدعي موشي يتح في ساعات الصباح إلى جلسة خاصة مع "لجنة الأمن" وعاد في الساعة 12 ظهراً. وقال إن أعضاء اللجنة وعدوه سوف لا يلحق باليهود أي أذى وأضاف : "كلنا في خطر ولا ينجينا سوى معجزة".

في الساعات المبكرة من هذا الصباح هرب أعضاء الحكومة والمفتي قبل أن تأخذ "لجنة الأمن" بزمام الأمور. وأعلن محمد يونس السبعاوي عن نفسه حاكماً عسكرياً على بغداد.

30 أيار- اليوم جمعة والمدينة هادئة, كنا جالسين في الدائرة, زارنا الحاخام ساسون خضوري وأخبرنا أنه استُدعي من قبل محمد يونس السبعاوي في الساعة العاشرة. وعاد إلينا قائلاً من الأحسن أن تذهبوا إلى محلات سكناكم, لقد أوعز لي يونس أن أخبر جميع اليهود أن عليهم إعداد طعام لمدة ثلاثة أيام وأن لا يخرجوا من بيوتهم. وأضاف :

عند نزولي في الدرج رأيت مدير الشرطة حسام الدين جمعة صاعداً إلى مكتب يونس والمبنى محاطاً بالشرطة, فسألني ما الخبر؟ فأجبته بما أمر يونس أن أُخبر أبناء الطائفة.

وفي الساعة 12 أبلغ الحاخام جميع يهود المدينة أن لا يغادروا منازلهم (ولكن في الساعة الثانية بعد الظهر عاد ثانية وقال إنه تلقى خبراً آخر), كنا حينها في "مدرسة شماش" وأردنا مغادرة المحل بعد خروج الحاخام, وفي تلك اللحظة وصلتنا مكالمة من سكرتير أرشد العمري يريد منا البقاء في انتظاره. في الساعة 12 جاءنا أرشد العمري وقال لموشي يتح ما يلي -: "قبل ساعة تقريباً كنتم في خطر, وقد زال الخطر, لقد استلمنا السلطة ولن يستطع أحد أن يمسكم بسوء. وممنوع إخراج مواد من المخزن إلا بأمر مني.

علمنا أنه عند ما كانت الشرطة محاصرة لمبنى وزارة محمد يونس السبعاوي, اقتحمت قوة من الشرطة مبنى "المدرسة الإعدادية الأهلية" (مدرسة تابعة للطائفة اليهودية) وطردت من داخله "كتائب الشباب" والقت القبض على عدد منهم وسفّرتهم إلى إيران. وداهمت قوة أخرى "مدرسة راحيل شحمون" والقت القبض على بعض من أفراد الفرع الآخر "لكتائب الشباب" وغادرت بقيتهم المكان.

وعلمنا فيما بعد أن محمد يونس السبعاوي أوعز إلى دار الإذاعة أن تنادي الجماهير لمهاجمة اليهود والغدر بهم, ولكن أرشد العمري منع ذلك.

وفي الساعة الخامسة بعد الظهر أذاع الراديو خبر هروب الحكومة وطرد يونس. وأن الحرب مع الإنكليز في مرحلة الانتهاء, وأن "لجنة الأمن الداخلي" أخذت على عاتقها التوصل إلى اتفاقية محترمة مع الإنكليز لا تمس بكرامة الدولة وهيبتها, وأنها ستحيط الجمهور علماً بالاتفاقية.

31 أيار- اليوم السبت, في المدينة يسود هدوء متوتر, هنا وهناك يتجول أفراد الشرطة وبأيديهم البنادق...في الساعة الخامسة والنصف أعلن الراديو أنه تم التوقيع على اتفاقية وأن الأمور عادت إلى مجراها الطبيعي. وفي الساعة السادسة أعلن الراديو أن الوصي على عرش العراق الأمير عبد الإله عائد, وسيصل إلى الميناء الجوي في الساعة العاشرة من صباح الغد, ودعي الجمهور لاستقباله استقبالاً حافلاً.

امتلأت كنس اليهود بالمصلين في ليل "عيد الأسابيع" (חג השבועות), عيد نزول التوراة على يد كليم الله النبي موسى, ثم عاودوا بعد الصلاة إلى منازلهم حيث تتلى الصلوات ترحماً على أرواح الموتى (תיקון שבועות), وكنا في حالة خوف ومتأملين أن يكون الأسوء قد غادرنا وتخلف عنا.

كانت الطائفة اليهودية, على مر الأجيال, تحتفل بزيارة قبور الصدّيقين, النبي حزقيال في الكفل وعزرا الكاتب خارج العاصمة, ومرقد يهوشع الكاهن الكبير في جانب الكرخ, وفي هذه السنة لم تتم هذه الزيارات.