تكشف بياتريس هيبو في كتابها الصادر سنة 2006، حول النظام السياسي الفاسد في تونس بعنوان ، La force de l'obéissance. Économie politique de la répression en Tunisie عن ترابط الفاعليين السياسيين و الإقتصاديين عبر شبكات متداخلة تمارس كل اشكال الفساد و المحسوبية على قاعدة تقديم الخدمات لعائلة الرئيس والدوائر النافذة المحيطة به بصفة طوعية في اكثر الأحيان لأنه الطريق الوحيد للنجاح في عالم المال و الأعمال وهي آلية للتوقي من شر العائلة المالكة.

واعتبرت هيبو ان الفساد كان بمثابة الشيء "المُنظَم" و"المُسيطَر عليه" بغاية بسط الرئيس سلطته على دواليب الدولة عبر ميكانيزمات الضبط والمراقبة. فالفساد في هذه الحالة منتج من اعلى هرم السلطة ونابع في الوقت ذاته من القاعدة في حركة شبيهة بحركة المد و المجز حتى يصبح قطع حبل الولادة مع الفساد بين مختلف "المتدخلين"، أمرا يكاد يكون مستحيلا وهو ما يفسر ارتفاع حجم الفساد في كل مؤسسات الدولة كما كشف عنه تقرير اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة و الفساد برئاسة عبد الفتاح عمر والصادر سنة 2011، أي اشهر بعد الثورة.

جاءت الثورة على أمل تفكيك كل هذه المنظومة وأصبح شعار مكافحة الفساد، الأكثر استخداما بين الأحزاب الحاكمة ليس بغاية مقاومة الفساد كما بيّنه الواقع و الممارسة فيما بعد، ولكن من اجل استعماله كسيف للمقايضة و الابتزاز السياسي وتطويع الإدارة لصالح الحاكم الجديد. لم يشذ عن هذه القاعدة أي حزب مسك مقاليد الحكم من 2011 الى 2019.

كانت أولى نتائج وهن مؤسسات الدولة وغياب الثقة في السياسيين، انتشارُ الفساد بِأضعاف ما كان عليه قبل الثورة بحسب كل المؤشرات الدولية و المحلية رغم تضخُم الترسانة التشريعية الرادعة للفساد، وهو أمر منطقي و طبيعي لأن القوانين لا يمكن ان تطبق بآليات نخرها الفساد كأن تقوم بتحميل مُحرك لسيارة جديدة في هيكل لأُخرى صنعت أواخر الستينات. ما المطلوب اذن؟ المطلوب إرساء آليات الحوكمة الرشيدة في هياكل الدولة ثم انفاذ القانون مع الإستعانة بالصبر والمثابرة لعبض السنوات حتى يولد جيل جديد يؤمن بهذه المبادئ. لأن الجيل القديم في اغلبه نشأ في منظومة فاسدة ومن شب على شيء شاب عليه.

الآن في تونس هناك حكومة ائتلافية جديدة تتقاذفُها أمواج الأحزاب في كل حدب و صوب و لا احد يعلم ان كانت ستستمِر أو كم ستصمد لأن ازمة الكورونا مرت وانتهى معها بسرعة ما كان يوصف بالتضامن الحكومي عكسه التصويت "اللامتضامن" لمشروع عدم التدخل الأجنبي في ليبيا.

ان مكافحة الفساد مسار طويل ومُضني لأن الحرب ليست مع عدو واضح و مكشوف الوجه بل هو عدو خفي و مُتستّر بدهاليز الدولة العميقة و ممراتها الخلفية التي بناها على امتداد عقود لذا فإن اضعف الإيمان ان تواجهه حكومة متضامنة و دولة قوية تقدم مصلحة البلاد على مصلحة الأحزاب وهو العنصر الغائب عن هذه الحكومة مع وجود فواصل و منعرجات طفيفة يمثلها حزب التيار الديموقراطي الذي صنع صورته على قاعدة مقاومة الفساد.

نفهم من هنا، عمل هذا الحزب على نفض الغبار على ملفات فساد متعلقة بالمؤسسات التابعة لوزرائه في حكومة الياس الفخفاخ كان آخرها ملف الوكالة الوطنية للتبغ والوقيد وهي المؤسسة المحتكرة لصناعة التبغ والوقيد في تونس، ملف يرتقي بلا ادنى شك الى مرتبة فضيحة دولة.

من جملة النقاط المهمة التي عرّج عليها التقرير "مواصلة تحمل الوكالة لكلفة التأجير ومختلف الامتيازات العينية التي تم منحها إلى مسؤول سابق بالوكالة على الرغم من عدم مباشرته لمهامه بالوكالة منذ سنة 2011 وتكليفه في الأثناء بمهام في هياكل اخرى وكذلك 5 أعوان أخرين يباشـرون مهامهم بوزارة المالية وتفوق الكلفـة الجملية السنوية التي تتكبّدها الوكالـة في هذا الصدد 200 ألف دينا".

ليس هذا فحسب بل أيضا "تمكين أعوان الوكالة من مذاقة شهرية لمنتجات الوكالة دون أي سند قانوني أو ترتيبي وصلت جملة الكميات التي تم توزيعها من الوكالة من 2013 إلى 2015 إلى ما يقرب عن 10 مليون علبة وتقدر قيمتها الجملية بما يناهز عن 22 مليون دينار.

ان تخسر الدولة مئات ملايين الدولارات "كمذاق" لصالح موظفين دون موجب حق، لا يعكس فقط حجم الفساد المستشري في مفاصل المؤسسات وانما يضع على المحك أصلا مبرر وجودها. فالمسألة ليست مرتبطة بالمسؤول الأول عن المؤسسة لأنه هو نفسه يشتغل صلب منظومة كاملة و وفق آليات محددة تحميه من المتابعة و تُؤمن له الإفلات من العقاب. فتذوق السجائر والتلذذ بطعمها لا يمكن ان يكون له معنى دون مباركة حزبية ان لم تكن متواطئة فهي متغافلة و في كلتا الحاتين فإن رائحة الفساد تفوح من التّبغ التونسي.