"يولد جميع الناس ويظلون أحرارًا ومتساوين في الكرامة والحقوق"
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، 1948 ، المادة 1
عاد الحديث من جديد في العالم عن التمييز العنصري تجاه ذوي البشرة السمراء والملونين بعد حادثة قتل جورج فلويد من طرف شرطي في الولايات المتحدة الأمريكية وخروج مظاهرات تنديد وشجب في العديد من المدن الغربية والبلدان المجاورة بهذه الممارسات المعادية للإنسانية والمهينة للكرامة والحقوق الآدمية. كما استذكر الجميع تراث النضال ضد العنصرية على غرار تمرد سبارتاكيس في روما وثورة الزنوج في الحقبة الوسيطة في الاسلام وصرخة لوثر كينغ المدوية وحملات غاندي ونيلسون مانديلا ومالكوم اكس ضد الظلم والازدراء وعلى التمركز على الذات على أساس الجنس واللون والعرق والدين واللغة والثقافة.
والحق أن الكثير من المجتمعات على مر التاريخ عانت ولا تزال من ظاهرة التمييز والازدراء والتراتبية سواء باسم المقدس أو تحت عنوان دنيوي وشهدت تبادل مشاعر الكراهية والاقصاء بين الأفراد والشرائح والطبقات وفشلت جل محاولاتها في تجنب هذه الآفات وراهنت على مزايا حركة الأنوار والحداثة والتقدم.

فماهي أصول العنصرية؟ وهل هي طبيعية وراثية أم لها جذور ثقافية تاريخية؟ من هو العنصري؟ وماهي علاماته؟ ومتى يتم التوقف عن اعادة انتاجه؟ والى أي حد يتوقف عن ممارسته؟ وكيف ارتبطت ظاهرة العنصرية بالعبودية والاستغلال والاستبداد؟ وكيف يمكن التصدي إليها؟ لماذا تعاود الظهور في بعض الأزمنة والوضعيات؟ ومن يتحمل مسؤولية الممارسات اللاإنسانية ؟ وأي دور للدولة والمجتمع المدني؟

ماهو في ميزان الفكر ومنهاج العمل هو فهم الظاهرة التمييزية ضمن مختلف تحولاتها التاريخية وتجلياتها الثقافية وجذورها الرمزية وإيجاد الطرائق الممكنة للتصدي لها ومعالجتها في منابتها وإنقاذ انسانية الكائن.
العنصرية من حيث هي مرض مزمن:
تشكلت العنصرية نتيجة الجهل بحقيقة الوضع البشري وظهور الهويات المنطوية على ذاتها والتعصب الى اللغة والدين والتمركز على الذات والوقوع في توهم التفوق وجنون العظمة وعقدة العرق الأرقى.

لقد جاء في معجم لاروس بأن العنصرية هي ايديولوجيا تقوم على الاعتقاد بوجود تسلسل هرمي بين المجموعات البشرية أي الأجناس وتؤثر على السلوك المستوحى منها بحيث يبرز عداوة نسقية تجاه فئة معينة من الناس[1] على غرار كراهية الأجانب والعنصرية ضد الشباب والتمييز ضد النساء والملحدين.

أما موسوعة ويكيبيديا فقد ربطت ظاهرة العنصرية بالجوانب الطبيعية الموروثة من العرق وذلك بالقول أنها الاعتقاد بأن هناك فروقا وعناصر موروثة بطبائع الناس أو قدراتهم وعزوها لانتمائهم لجماعة أو عرق ما... وبالتالي تبرير معاملة الأفراد المنتمون الى هذه الجماعة بشكل مختلف اجتماعيا وقانونيا[2].

في حين ذهبت مجلة العلوم الانسانية في عدد خاص بهذا الملف الى تعريف العنصرية على النحو التالي: "تولد العنصرية من المواجهة مع الغيرية الانسانية. وقد تجلى في المجتمعات الغربية الحديثة بأشكال متعددة (العبودية والإبادة الجماعية والفصل العنصري وما إلى ذلك). واليوم ، فإن مسألة توافق الثقافات تعطيها هبة ثانية." وتقر بجود عدة تعريفات لظاهرة العنصرية وتتوقف عند التعريف الذي يرى بأنها ظاهرة تتمثل في اعتبار الاختلافات بين الأفراد ، سواء كانت جسدية أو ثقافية ، وراثية وغير قابلة للتغيير وطبيعية؛... ويمكن أن تتخذ شكل مشاعر وأفعال تتراوح بين التمييز وإبادة الآخر "[3]. علاوة على ذلك تتكون العنصرية من ثلاث عناصر: تصنيف الأفراد الى مجموعات وترتيبها وتوطيدها عبر انتقاء وراثي واللافت للنظر هو التمييز الذي يتقوم به المجلة بين العنصرية وكراهية الأجانب في نقطة قابلية الاصلاح، فهل هذا يعني أن العنصرية متجذرة في الطبيعة البشرية ويصعب الشفاء منها ومعالجتها من أصولها؟

شروط امكان التوقي من العنصرية:
في الواقع تحولت العنصرية الى آفة خطيرة ومرض مزمن تعاني منه البشرية وتشكلت بنية في الذهن البشري تمارسها بطريقة آلية والتصقت بردود الأفعال الفورية والسلوكيات البديهية والتصورات المباشرة ووقعت الفلسفات والثقافات في تبرير ذلك وللقد تحدث أرسطو عن العبودية بالطبع وقسمت الرواقية الناس الى فئتين هما الحكام والمحكومين أي الأسياد والعبيد ونجد في المأثور الشرقي الراعي والرعية والرعاع.

غير أن الاسلام الغى الرق وضيق الخناق على العبودية وساوى بين الناس وأعلن مبدأ المساواة بين العبيد والأحرار ووضع بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي وعمار بن ياسر وسادة قريش من الأغنياء في نفس المرتبة وجعل الانتماء الى مدينة المواطنة معيار التضحية في سبيل المصلحة العامة.

من جهة أخرى عملت الفلسفة على تغيير صورة الانسان لنفسه وموقعه في العالم وتفضيل مبدأ الحق على الواقع وتثوير النظرية السياسية والقانونية بما يمنح الكائن البشري ضمانات دستورية تحفظ له كيانه من كل انتهاك وظهرت في الأثناء مدرسة الحقوق الطبيعية ومدرسة العقد الاجتماعي وعززت الثورات تقدما في الوعي المواطني وراكمت نوعيا تشريعات قانونية ومكاسب حداثية التي تدافع عن كرامة الانسان.

بيد أن ظاهرة العنصرية لم تختفي من الوجود في القرن الواحد والعشرين ومازال هناك عنف ديني ولاتسامح بين الطوائف وتبادل للمشاعر العدوانية بين الأفراد وعودة للنازية والفاشية في السياسة وبروز أشكال اخرى من العبودية والاستعمار على غرار الرق الأبيض وتجارة البشر والاستعمار الثقافي والتقني ومثل الخطاب اليميني المحافظ الغطاء الايديولوجي والراعي الرسمي لهذه الممارسات المنافية للانساني.

لا يمكن التوقي من هذه الظاهرة المرضية التي التصقت بتاريخ البشر الا باتباع المبادئ الايتيقية التالية:
الاقلاع الفوري عن ممارستها
الكف عن الانجرار وراء الانتقام والثأر
اعتماد مبادئ التسامح والسلم والصفح
القيام بالتنازل والاعتذار وجبر الأضرار
احترام الكرامة الادمية في كل شخص بشري.

فهم الآخر وتفهم سلوكه وبلوغ التعارف العادل.
التعايش بين الأنا والغير عبر تشريع الاختلاف.
تنبني نظرة منفتحة للعالم ورؤية جمالية للوجود.

لكن الى أي مدى تقدر الايتيقا والايكولوجيا والاستيطيقا على معالجة ما أفسدته السياسة والاقتصاد ؟ وكيف يتمكن الذهن البشري من اقتلاع المشاعر العنصرية من جذورها اللاواعية وذاكرتها الجماعية؟
كاتب فلسفي

-----------

[1] Lien : https://www.larousse.fr/dictionnaires/francais/racisme/65932
[2] Lien : https://fr.wikipedia.org/wiki/Racisme
[3] Maud navarre, qu’est ce que le racisme ?; in revue sciences humaines, n°292, Mai, 2017,