عرفت البشرية عبر تاريخها الطويل كثيرا من الكوارث والمخاطر الناتجة عن الحروب، أو عن طريق انتشار الأمراض والأوبئة التي أودت بحياة الملايين من البشر، ولكن ما يميز كل تلك الأوبئة الجماعية عن أخطار فايروس "كورونا" هو أنها كانت محصورة في بقعة جغرافية معينة، وليست هذه هي الحال الآن في المجتمعات كافة دون استثناء. ويعتبر هذا المرض من أعقد الأمراض التي مرت على البشرية، حتى الآن، خاصة أن العلماء والأطباء لم يتمكنوا حتى الآن من إيجاد علاج حاسم أو لقاح يقي من الإصابة به، وترافق ذلك مع حالة خوف شديد من الإصابة بالفايروس، ثم الموت، في الوقت الذي قضى فيه هذا الفايروس حتى اليوم على مئات الآلاف من البشر.

مع بداية ظهور وباء كورونا قادما من بؤرته في مدينة "ووهان" الصينية، انقلبت كل الأمور رأسا على عقب، حيث دفع هذا الوباء الشركات ومختلف القطاعات حول العالم إلى تعطيل الكثير من الوظائف، وتفعيل نظام العمل عن بُعد تخوفا من انتشار الوباء واتساع رقعته بين الموظفين والعاملين.

وبدون أي مقدمات وجد معظم الموظفين في مختلف أنحاء العالم أنفسهم في مواجهة تجربة جديدة كليا، وهي إنجاز المهام الوظيفية والتواصل مع زملائهم عن بُعد. ومع اتساع رقعة الانتشار لهذا الفايروس المستجد، اتجه العالم كذلك إلى الفضاء الافتراضي لعقد الملتقيات والاجتماعات المهمة، وتعتبر القمة الاستثنائية الافتراضية "لمجموعة العشرين" التي عقدتها المملكة العربية السعودية عن بُعد أحد أبرز الملتقيات التي عقدت مؤخرا بواسطة العالم الافتراضي، حرصا على سلامة الأعضاء والقادة المشاركين.

ومنذ تفشي هذه الجائحة، تغيرت سلوكيات الشراء لدى المستهلكين في جميع أنحاء العالم تقريبا، حيث أدت إلى لفت انتباههم وأنظارهم لأهمية التغذية الجيدة، والنظافة الشخصية والمنزلية، والصحة بشكل عام. وقد بات التغيير في سلوك المستهلكين واضحا في الكثير من التصرفات الشخصية اليومية، أبرزها تخفيض عدد وفترات زياراتهم للأسواق، والحرص على الدفع عن طريق البطاقات الائتمانية بدلًا من العملات الورقية.

عادة ما تشهد المجتمعات موجات من الخوف الجماعي عند تفشي الأوبئة، كما تحدث ثورة في التفسيرات المرتبطة بأسباب هذه المعاناة الجماعية جراء الوباء، وتتسبب في موجة من التناقضات القيمية، فالأوبئة بطبيعتها أمراض جديدة، لا تتوافر بشأنها معلومات أو توقعات بكيفية انتشارها ومكافحتها، ولا يوجد علاج لها. وكلما كان الوباء خطيرا بسبب سرعة انتشاره وانتقاله بالعدوى، والآثار التي يتركها على المصابين به، طالت المدة الزمنية بلا علاج واضح، وكانت المساحة متروكة للاجتهادات الفردية والاجتماعية، والتمسك بأي أمل في الخلاص، حتى وإن كان ذلك يتمثل في ممارسات غير منطقية.

أثارت الأوبئة، عبر التاريخ، العديد من الأسئلة الوجودية في العقل الجماعي للشعوب الموبوءة، وتركت في بعض الحالات تأثيرات على التركيبة النفسية لأجيال كاملة. فالأوبئة مثلها مثل الحروب تؤسس لتغيرات جذرية في نمط حياة الشعوب اليومية، وتنتهي التجربة بعد ان تكون قد أسست لقيم وأفكار وأنماط مختلفة للحياة الإنسانية. في مواجهة هذا الوباء الخطير، سلك الإنسان طرقا كثيرة لمحاولة الحفاظ على توازنه النفسي والصحي، حيث ذهب كثير من الناس إلى الإيمان بالعلم البحت، كوسيلة للخروج من هذه الكارثة، واختار البعض الآخر الرجوع إلى الدين، كملاذ أخير له. وهو ما يدعونا إلى النظر في العلاقة بين الوباء الجمعي الذي يخلق مخاوف الموت، وبين السلوك الديني للأفراد.

لن يكون العالم ما بعد "كورونا" كما كان قبلها، ومن يعتقد ان العالم سوف يعود لأساليبه القديمة العنيدة فهو واهم، لأن التجارب التي مرت على الإنسانية عبر العصور اثبتت ان بذور الأفكار الجديدة إذا تمت تجربتها لا تموت. ربما تخبو وتتلكأ لكنها تعود وتولد من جديد. وكم قرأنا وسمعنا عن أفكار ريادية ماتت لأنها ولدت قبل اوانها، لكنها عادت وولدت من جديد بعد سنوات قليلة.

بعد زوال هذه الجائحة، سوف يكون تركيز الحكومات في الدول المتقدمة والمتحضرة على الإنسان، وخصوصا فيما يتعلق بالصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية والعامة، وتطوير وتحديث البنى التحتية، حيث سوف يتم توجيه جل الموارد المالية نحو هذه القطاعات المهمة والرئيسية.

أما دول العالم الثالث (الذي من ضمنه عالمنا العربي)، فلا اعتقد ان شيئا من هذا القبيل سوف يحدث، وكأن هذا العالم عصيا على التغيير. الكوارث التي عصفت بعالمنا العربي منذ ثمانينيات القرن الماضي والى يومنا هذا تؤكد صحة تقديراتنا.