تسببت مقتل مواطن أمريكي من أصول أفريقية بإحتجاجات طالت الولايات المتحدة الامريكية، وقد عبرت الجماهير عن سخطها وإستنكارها لهذه الفاجعة الانسانية بأساليب وأشكال عدة، كما شاركت فيها فئات مختلفة من الجماهير، بغض النظر عن موقعهم الاجتماعي، والاقتصادي، أو عرقهم و لونهم، وذلك لا لشئ فقط ، إلا للتنديد حول إستعمال العنف المفرط من قبل الاجهزة الامنية، وللذود عن حقوق الفرد العادي، فقد أصبحت شعارات من قبيل (أريد أن أتنفس) و (حياة السود ليست رخيصة)، شعارات كتبت، ورفعت، ونادت بها المجتمع الامريكي. ليس هذا فحسب، بل ساهمت التجمعات السياسية والمدنية، في إنتشار مطلب القصاص، ودفع الدعوى على ثلاثة من أفراد الشرطة، ومثولهم أمام القضاء، ومحاكمتهم جراء إستعمالهم للعنف بصورة غير مبررة. قد تكون الواقعة والقصة لغاية هذه النقطة واقعة طبيعية، فقد أصبح (جورج فلويد) ضحية وقد تدون قصته لاحقا ويصبح إحدى الروائيات العالمية، ويقوم البعض بتحولها الى فلم سينمائي وتنال إعجاب الجمهور، وتكسب الشركة المنتجة من جراء إنتاجها، والممثليين وآخرون، ألوفا أو الملايين من الدولارات، ولكن إبنته قد فقدت والدها للأبد، وزوجته قد ترملت، والقصة لم تغيير من معانات السود في الولايات المتحدة الامريكية، ولكن الغريب في الامر، أن القصة لم ينتهي بعد، بل لازالت توابع وتأثيرات الحادثة ونتائجها تطفوا الى السطح شيئا فشيئا، وهذا ما يحدث فعلا.

إن من أولى تأثيرات الحادثة في الداخل الامريكي هي: كشفها عن طبيعة المجتمع الامريكي داخليا من الناحية الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، وكيفية تعامل النظام مع الوقائع المماثلة، قتل فلويد في خضم وضع يمكن أن تسمى بحالة من الركود الاجتماعي، إن إنتشار مرض كورونا(كوفيد – 19)، وتدني الوضع الاقتصادي، وإنخاض الحاد في أسعار النفط، وإرباك السياسة الخارجية الامريكية، وعدم التنسيق بين أجهزة الدولة للتعامل مع جميع هذه القضايا، كانت بحاجة الى دافع أو شرارة ما لتدفع بالجماهير الامريكية للخروج من أجل التغيير، فمن الناحية الاجتماعية أكدت الحادثة مرة أخرى، على وجود العنصرية المقيتة داخل المجتمع الامريكي، والتمييز العرقي بين السود والبيض، وأن تعامل النظام الامريكي مع هذه الحالة الاجتماعية، وبالرغم من سعي الدولة الدؤبة لإستئصال هذه الظاهرة لم تكلل بالنجاح، التمييز لازالت باقية وتظرب بجذورها عميقا داخل المجتمع الامريكي، لذلك نجد و نرى أن الحادثة قد تبعتها حوادث أخرى مماثلة، أما من الناحية الاقتصادية، فقد صاحبت الاحتجاجات أعمال نهب و سطو و سرقة، خاصة في أحياء فقيرة، والمناطق التي تتميز بكثافة سكانية عالية مثل (نيويورك)، وهذا يدل على مدى تدهور الحالة المعيشية للمجتمع الامريكي. على الرغم من أن الاقتصاد الامريكي توسم بأنها من الاقتصاديات القوية، إلا أن هذا الاقتصاد تفتقر الى العدالة الاجتماعية، بما يؤدي الى بناء إستقرار إجتماعي خاصة في أوقات الازمات، مثل الحالة التي تمر بها أمريكا و جميع دول العالم نتيجة لوباء كوفيد – 19. أما من الناحية السياسية، فقد عمقت الخلاف بين الحزبين الرئيسيين (الجمهوري والديمقراطي)، وتبديل إتهامات من قبل قادة الحزبين حول عدم وجود برنامج لتعامل الحكومة مع الوضع الاقتصادي و الامني. فضلا عن كل هذه التأثيرات الداخلية وغيرهم، هناك أخرى خارجية.
ساهمت وسائل الاعلام و مواقع التواصل الاجتماعي بنشر الاخبار والاحتجاجات وبسرعة البرق، وكل ذلك ساهمت بنقل الاحتجاجات من واشنطن ونيويورك و بوسطن و غيرهم، الى عواصم في الدول الاوروبية منها: لندن، بل أصبح الناس، يمقتون رموزا كانت الى قريب من الماضي، تعد رموزا إنسانية، تعبر عن مدى شغف الانسان و سعية لإستكسشاف الجديد، مثل تمثال (كريستوفر كولومبوس)(1)، ويرمونها في البحر لأنها بنظرهم تعبر عن إستعباد البشر. وتجتاح مظاهرات المدن الكبرى، وتستقطب فئات إجتماعية كثيرة. وأبعد من كل ذلك، صرحت قادة دول العالم، وتنددت بالحادثة ووصمتها بأنها حادثة مخلة بالكرامة الانسانية، وعلى الحكومات والدول أن تسعى من أجل الحد من إنتشار روح العنصرية (2)، وبذلك نكون قد وصلنا الى مستوى آخر غير مستوى المحلي، الآن وكل حادثة ما، مهما كانت صغيرة من حيث الحجم والمدى والتأثير، بإمكانها أن تتحول الى حادثة كبيرة تغيير مسار المجتمع البشري، فالآن النظر الى مقتل (فلويد)، هي ليست مقتل مواطن منتمي الى دولة ما وقد نالت جزاء عمله من قبل أجهزة دولة ذات سلطة شرعية، بل أصبح النظر الى الحادثة كنقطة تحول بين مفهومين وهما: (المواطن العالمي) و(العنصرية الجديدة).
قطعت البشرية وخاصة منذ خمسينيات القرن المضي، أشوطا في مسألة بناء إنتماء عالمي للكرة الارضية. على الرغم من مثالية الفكرة، إلا أنها تستحق العمل من أجلها. العقد الاول من القرن الحالي قد شهدت صعود مجموعة من العناصر لهذه الفكرة، ومنها: فكرة العملة العالمية المتمثلة بالعملات الالكترونية، وجوازات سفر شبه عالمية، والتي تستطيع من خلالها السفر الى أكثر من مئة دولة بدون تأشيرة دخول، فضلا عن دور منظمات التابعة للامم المتحدة في الاستجابة للفواجع الانسانية، المتمثلة في مساعدة الدول التى تعاني من المجاعة و التدخل في الدول لأغراض إنسانية. إلا أن هذا الاتجاه نحو العالمية، قد واجهتها حركة جديدة يمكن أن نسميها بـ (العنصرية الجديدة). هذا الانموذج من العنصرية، تستمد أصولها من العنصريات القديمة، من العنصرية النازية والفاشية والراديكالية، لذلك نجد أن ترمب في برنامجه الانتخابي كان ينادي بـ (أمريكا أولا)، وبعد وصوله الى البيت الابيض، أول ماقام به هو قراره ببناء جدار يفصل ما بين أمريكا و المكسيك، فضلا عن قرارات أخرى عنصرية. تأتي محاولات المملكة المتحدة للخروج من الاتحاد الاوروبي والمسمى (بريكزت)(3) إحدى المحاولات الاخرى لتقوقع الدولة داخل سورها السياسي،

وتفضيل مصالحها على مصالح غيرها. هذه الحالة يُزكي فرض فردانية الدولة على الاتحادات و الكارتلات الاقتصادية، التى كانت الى وقت قريب، واسعة الانتشار خاصة من منتصف القرن العشرين حتى العقد الاول من هذا القرن. إذن الحادثة التي ساهمت بإنتشار الاحتجاجات هي ليست بحادثة بسيطة و عابرة، بل إنها عميقة، وتأثيراتها ونتائجها ستكون عميقة كذلك. بل إنها تعبر عن حركة إجتماعية بدأت تطفوا الى السطح، ترى هذه الحركة أن حركة الاتصالات والعلاقات الواسعة والمعقدة لم تترك مجالا لإنعزال الفرد و الحكومات والمجتمعات، وأفضل دليل على ذلك هي وباء كوفيد -19، هذا الوباء تحتاج الى مواجهة عالمية لأن لها تأثيرات ونتائج عالمية، كذلك الحال بالعنصرية، فإننا نحتاج الى مواجهتها عالميا، وذلك لما يكون لها من تأثيرات ونتائج عالمية، فلو وقفت دول العالم موحدة ضد مطامع هتلر، لما نشب الحرب العالمية الثانية، والعبرة لمن إتعض بها.
_______
(1) اعتبرت صحيفة "بوبليكو" الإسبانية أن مقتل "جورج فلويد" على يد الشرطة في الولايات المتحدة تسبب بتأجيج الخلافات داخل المجتمع الأمريكي حول تاريخ البلاد والإرث الذي يعتبره كثيرون عنصريا وإقصائيا.
(2) نددت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، اليوم بـ(قتل) الأميركي الأسود، جورج فلويد، بأيدي شرطيين، منتقدة(العنصرية) المنتشرة في(مجتمع أميركي شديد الاستقطاب(، وقالت ميركل في مقابلة أجرتها معها قناة(زد دي إف) التلفزيونية إن (قتل جورج فلويد أمر فظيع. العنصرية أمر فظيع. المجتمع الأميركي شديد الاستقطاب)، وتابعت: (لطالما كانت العنصرية موجودة، وهذا ما يحدث للأسف هنا أيضا في ألمانيا)، مبدية أملها في أن تبقى التظاهرات الجارية في الولايات المتحدة (سلمية)، وعلقت ردا على سؤال حول نهج الرئيس الأميركي دونالد ترمب، فقالت: (أعتقد أن أسلوبه السياسي سجالي للغاية)، مضيفة: (مطالبي أنا في السياسة هي على الدوام محاولة جمع الناس ومصالحتهم مع بعضهم)، وأكدت: (إنني أعمل مع جميع الرؤساء المنتخبين في العالم بأسره وبالطبع مع الرئيس الأميركي... كل ما يمكنني القيام به، هو الأمل في أن نتمكن من العمل معاً). المصدر https://aawsat.com
(3) بريكزت تعني (British exit )