ما نتعلَّمه ونحنُ صغار يبقى تأثيره ولا يزول، فيتحكَّم في ضمائرنا ويؤثِّر في سلوكياتنا، حتى وإن أعقب ذلك تغيير في القناعات. هذهِ تجربتي ولا أرغب في تعميمها.

كنت ولا أزال أعشق الاستماع لصوت الأرض الفنان الكبير طلال مداح رحمه الله، فعندما أستمع إلى أغنية له فإني أشعر بنوع من تأنيب الضمير، حيث أتخيل أنه يُعذَّب في قبره مع كل أغنية أسمعها له! (هكذا عُلِّمت في المدرسة)، فأدعو له وأحياناً أذهب وأُقدِّم صدقة وأنوي أن تكون في ميزان حسناته، مُحتاطاً بذلك في حال كانت الأغاني حراماً بالفعل، رغم اقتناعي بأنها من المباحات، ولا يمكن أن أخلُد إلى النوم دون أن أستمع إلى الابتهالات الصوفية بصوت الشيخ سید محمد النقشبندي رحمه الله، فيرقُّ بها قلبي، ويزداد عشقي للقاء ربي، وكنت ولا أزال أستمع أيضاً إلى القرآن بصوت القارئ الشيخ السيد متولي عبد العال رحمه الله، الذي يستهويني ترتيله، وإبداعه في المقامات، وأجد لذة في القرآن والابتهالات والموسيقى والغناء، إلا أن القرآن لذته تورث السكينة والطمأنينة، والابتهالات لذتها تقوي عنصر الاشتياق في الروح، بينما الموسيقى والغناء لذتهما تكمن في نسج الأحلام، والترفيه وإثارة الحماس، وتعزية النفس والحنين للماضي، واسترجاع الذكريات. فالبيت الوارد في نونية الشيخ العلَّامة ابن القيم رحمه الله:
حب الكتاب، وحب ألحان الغناء
في قلب عبد ليس يجتمعان
لا يصدق على جميع الحالات، ثم إنه اجتهاد منه رحمه الله، فليس قرآناً وليس حديثاً نبوياً صحيحاً أو حتی ضعيفاً. من أنزل القرآن هو نفسه من فطر وجدان الإنسان على حب الأصوات الحسنة(خرير الماء، تغريد الطيور، الموسيقى).

الموسيقى وحدها من لها القدرة على الوصول إلى أعماق الوجدان، فتداويه، وتطبطب عليه، وتخرج أروع ما فيه، لذا نجد أن الفيلسوف شوبنهاور رفع الموسيقى فوق كل الفنون، وجعلها في مقام لا يدنو منها أي فنٍ آخر، لتميُّزها وتفرُّدها بمخاطبة الشعور بصورة مباشرة.

واحتياج النفس للموسيقى كاحتياج الجسد للغذاء والشراب، وإن من يؤمن بتحريم الموسيقى، فكأنه في المقابل يحرم الغذاء والشراب! وهذا لا يتصوَّره عاقل.

وفي الوقت الذي أثبت فيه العلم أهمية الموسيقى بناءً على أبحاث ودراسات علمية، لا زال هناك من يتحدَّث عن حكمها!

بالفن يُدرَك جمال الحياة، ويُعرَف الشعور، ويُوجَد المعنى، ويظهر الوجود في أبهى صورة، وبانعدامه يتجلَّى العدم، ويبرز الألم، وكما أن من يعادي الفلسفة، فهو يعادي الإنسانية، فإن من يعادي الفن فهو يعادي الحياة والإنسان معاً.

بعد كل هذا أقول: إن احتواء أي منهج ديني يُقدَّم للطلاب في المدارس على آراء مُتطرِّفة تجزم بتحريم الموسيقى والغناء ليس خللاً في التعليم فحسب، وإنما جريمة بحق الإنسانية!

من هنا كان لزاماً مراجعة المناهج الدينية والتراث الديني عموماً، هذا إذا أردنا أن تنشأ أجيالاً سويِّة مُحبة للحياة وراغبة لها ومُقبلة عليها، يجب أن تزول ثقافة(يُستتاب فإن تاب وإلا قُتل...باب ما جاء في قتل...حكم السلام ومصافحة غير المسلم...إلخ) يجب أن تختفي من مناهجنا، ويجب أن خيُحاسَب من يُروِّج لها أو يدافع عنها بأي شكل من الأشكال.