على خلفية تفشي الفوضى والاضطرابات والأزمات في العديد من الدول العربية، يطرح بعض المحللين والمثقفين في الآونة الأخيرة فرضية مفادها أن فشل هذه الدول ناجم بالأساس عن فشل النخب السياسية وافتقار هذه الدول للموارد التخطيطية والرؤى الاستراتيجية اللازمة لتدشين عملية تنمية مستدامة تستطيع من خلالها مجابهة الظروف والتحديات التي تواجهها.

ويروح البعض من هؤلاء للفكرة القائلة بفشل دولة الاستقلال، وقابلية شعوب هذه الدول للاستعمار وعدم قدرتها على الحياة بشكل مستقل عن القوى الاستعمارية السابقة، فضلاً عن رؤى وطروحات سلبية أخرى تعج بها صفحات السوشيال ميديا والمواقع الالكترونية، وتجد من يتفاعل معها في ظل حالة التشاؤم والاحباط التي تخيم على فضاء منطقتنا في السنوات الأخيرة.

والحقيقة أن مثل هذه الآراء ليس لها نصيب من الصواب في ظل وجود شواهد ونماذج بارزة دالة على النجاح التنموي وامتلاك القدرة على توظيف موارد الدول من أجل تحقيق التنمية بل والوصول إلى مراتب التنافسية العالمية في مؤشرات التنمية كافة مثلما عليه الحال في دولة الامارات العربية المتحدة وبعض دول مجلس التعاون الأخرى.
قد يقول قائل أن دول مجلس التعاون لاتعد من الدول التي خضعت للاستعمار بشكل مباشر، وأنها تمتلك ثروات طبيعية هائلة مكّنتها من بناء "دولة الرفاه" ثم الانطلاق إلى نموذج تنموي أكثر تميزاً وقدرة على الاستدامة، وهذه حقيقة ولكنها لا تفسر ما تشهده دولة مثل الامارات من انطلاقة تنموية ارتقت من خلالها إلى استشكاف المريخ والاتكاء على اقتصاد تنافسي قوي يعتمد على الكفاءات المواطنة في إدارة الحكومة والتخطيط للقرن الحادي والعشرين.

الحقيقة أيضاً أن الفشل والفوضى في العديد من دول منطقتنا العربية لها أسبابها الواضحة، وبعضها يعود إلى عوامل ذاتية داخل الدول نفسها وترتبط بفشل النخب الحاكمة في هذه الدول في وضع أسس حقيقية لبناء الدولة، وغياب الرؤى الاستراتيجية القادرة على توظيف موارد الدول من أجل مصلحة الشعوب مثلما حدث في الحالة الليبية على سبيل المثال، حيث الثروة النفطية والموارد الطبيعية الهائلة التي تجعل من هذا البلد العربي نموذجاً مشابها لدول مجلس التعاون مع فارق السقوط في براثن الفوضى والاضطرابات بسبب غياب التنمية الحقيقية وهدر موارد الدولة الليبية في مسارات وهمية. هناك أيضاً عوامل خارجية/ داخلية أخرى تمثلت في تآمر تنظيمات الارهاب والتطرف على مقدرات شعوبها والاستقواء بقوى خارجية من أجل نشر الفوضى والاضطرابات وإشعال حروب أهلية بزعم السعي لتحقيق الديمقراطية وبناء أنظمة سياسية بديلة وهو مايعرف بمخطط "الفوضى الخلاقة"، الذي ظل يخبو ويطفو على السطح في منطقتنا طيلة العقود الماضية، حتى عاد للظهور مجدداً من خلال غزو العراق عام 2011 ثم تفشي موجة الاضطرابات والاحتجاجات التي وفرت غطاء لهذا المخطط في عام 2011.

ولاشك أن التسليم بمقولات مقولبة مثل القابلية للاستعمار وغير ذلك يمثل تغييباً للحقائق واستهانة بتاريخ شعوبنا العربية التي لعبت أدواراً بارزة في مسيرة الحضارة القديمة عبر مختلف الأزمنة، فما تحتاجه هذه الشعوب، في ظل ما تمتلكه من موارد بشرية ومادية وطبيعية، هو رؤى تخطيطية واعية قابلة للتنفيذ وإرادة صلبة قادرة على أن تكون في مقدمة الصفوف ومصدر إلهام للشعوب في الصبر والوعي والولاء والانتماء للأوطان.

ولذا فإن استئناف الحضارة العربية الذي تحدث عنه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، في فبراير عام 2017 كان مجسداً لأحلام الشعوب العربية ومستوعباً للتاريخ ومعطياته وما تستطيع الشعوب العربية تقديمه للحضارة الانسانية والعالم من خلال إسهامات ايجابية فاعلة في البناء والتقدم والتطور، فالعرب ليسوا شراذم الارهابيين الذين تحتفظ بأسمائهم ذاكرة الأجيال الجديدة في مناطق شتى من العالم عانت ولا تزال خطر الارهاب وتنظيماته، بل العرب هم قائمة علماء طويلة يصعب حصرها في مختلف المجالات، الفلك والطب والصيدلة والرياضيات والكيمياء والسياسة والاقتصاد والزراعة والجغرافيا والفلسفة والموسيقي والآداب.

ولاشك أن شعوب وأمة انجبت هذا الكم الهائل من العلماء لا تفتقر مطلقاً إلى مقومات استئناف مسيرتها الحضارية، شريطة أن تتجاوز محنتها وتتخلص من أسباب الجمود والاخفاقات التنموية وتنفض عن نفسها غبار الجهل والأمية الذي يحاول الظلاميون فرضه عليها في السنوات والعقود الأخيرة كي تصبح شعوب منقادة فاقدة للثقة بالذات، مايجعلها أرضا خصبة لنشر الفكر الارهابي المتطرف، ومن يصبح من اليسير سلب إرادتها وتزييف وعيها وجعلها منقادة لأفكار هذه التنظيمات والجماعات التخريبية التي تمتلك مشروعات معادية للدول والأوطان والشعوب.